ابن زريق البغدادي وقصيدته الفراقية

> محمد حسين الدَبَاء

> تحكي هذه القصيدة قصة الشاعر محمد بن زريق البغدادي الذي كان مولعًا بحب زوجته وابنة عمه التي أحبها حبًا عميقًا صادقًا، لكنّ ما به من ضيق العيش وقلة ذات اليد حمله على الرحيل طلبًا للرزق، الأمر الذي لم ترضَ عنه زوجته، ومع ذلك فقد أخذ برأيه وقصد أبا الخبير عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس، ومدحه بقصيدة بليغة، فأعطاه عطاء قليلاً.
فقال ابن زريق وقلبه يعتصر ألمًا: “إنا لله وإنا إليه راجعون ! .. سلكتُ القفار والبحار إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء!”.
ثم انزوى يتذكر فراق ابنة عمه وما بينهما من بعد المسافة، وما تحملَّه في سبيل هذا السفر من مشقة وبذل مال وبعد عن الأهل والأحبة، فاعتلّ غمًّا ومات.
وأراد عبد الرحمن - كما قيل - اختبار ابن زريق بهذا العطاء القليل، فلما كان بعد أيام، سأل عنه فافتقدوه في الخان الذي كان نازلاً فيه، فكانت المفاجأة أن تحول هذا الرجل إلى جثة هامدة، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه القصيدة الفراقية الحزينة التي تفيض رقة وحنانًا.
فلما وقف أبو عبدالرحمن على هذه الأبيات بكى حتى خضب لحيته، وقال: “وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي”.
ومن خلال القصيدة العينية عرف أبوعبدالرحمن الأندلسي منزل ابن زريق في بغداد بالكرخ، فحمل إلى زوجة ابن زريق خمسة آلاف دينار، وعرفها موته.
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَرًا
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
ويترك لنا ابن زريق خلاصة أمينته وتجربته مع الغربة والرحيل، من أجل الرزق، وفي سبيل زوجته التي نصحته بعدم الرحيل فلم يستمع لها، حيث يقول ابن زريق البغدادي في مستهل قصيدته مخاطبًا زوجته:

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي نصحه حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ النصح يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
إِذا الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَندّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
أِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذبُ اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرق
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ
بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ
كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
كَم قائِلٍ لِي ذُقتُ البَينَ قُلتُ لَهُ
الذَنبُ وَاللَهِ ذَنبي لَستُ أَدفَعُهُ
ما كُنتُ أَحسَبُ أَنَّ الدهرَ يَفجَعُنِي
بِهِ وَلا أَنَّ بِي الأَيّامَ تَفجعُهُ
حَتّى جَرى البَينُ فِيما بَينَنا بِيَدٍ
عَسراءَ تَمنَعُنِي حَظّي وَتَمنَعُهُ
قَد كُنتُ مِن رَيبِ دهرِي جازِعاً فَرِقاً
فَلَم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزَعُهُ
بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست
آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُ
هَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا
أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ
وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا
جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ
وَإِن تُغِلُ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ
فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ
وعينية ابن زريق من عيون الشعر ... قال عنها ابن حزم الأندلسي: “من تختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف”
ولا يعرف لابن زريق غير عينيته هذه، التي حظيت باهتمام كبير من الشعراء والأدباء على مر العصور .. فعارضها أبو بكر العيدي:
لي بالحجاز غرامُ لست أدفعه
ينقاد قلبي له طوعًا ويتبعه
وعارضها أبو العباس أحمد بن جعفر بن أحمد الدبيثي:
يروم صبرًا وفرطُ الوجدِ يمنعهُ
سُلوهُ، ودواعي الشوق تردعهُ

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى