خيارات الحرب والتقسيم والمصالحة.. تقسيم اليمن أصبح واقعا فعليا باندلاع حركة الحوثيين

> تقرير/ د. عبد العاطى محمد

> أصبح الاقتراب من المشهد اليمني ضربا من المجازفة. فالمستجدات تتوالى إلى الحد الذي يصيب المراقب بالذهول لما يجري فيما كان يسمى باليمن السعيد، والمواقف تتبدل بين لحظة وأخرى، والخيارات تتعدد واحتمالات كل منها ممكنة. وفي ظل تعقيد المشهد لم يعد ممكنا إيجازه فقط في مشكلة الفراغ السياسي وكيفية التغلب عليها، وإنما في المخاطر التي تهدد بلدا بكامله، دولة وشعبا ونظاما سياسيا.
لأكثر من ثلاثة شهور واليمن يشهد في اليوم الواحد الحدث ونقيضه، الحوثيون يتمسكون بما ترتب على حركتهم من سيطرة فعلية على السلطة ويطرحون البدائل السياسية المؤسسية لسد ما وصفوه بالفراغ السياسي ويتصدون بالقوة لكل مظاهر الاعتراض على حركتهم، وفي نفس الوقت يؤكدون على أهمية الحوار ودعوتهم إلى مشاركة الجميع في السلطة دون إقصاء لأحد. وبالمقابل يحدث النقيض على الطرف الآخر فالرئيس هادي وحكومته والقوى السياسية المناوئة للحوثيين يعتبرون أنفسهم ممثلي الشرعية في البلاد ولا يعترفون بالانقلاب على السلطة وما ترتب عليه. وبعد أن كان هادي مستقيلا ومحتجزا في صنعاء تحت حصار الحوثيين تمكن فجأة من الذهاب إلى عدن وقرر العدول عن الاستقالة وبدأ يمارس مهامه كرئيس شرعي للبلاد.
ولم يفقد الوسيط الدولي ابن عمر حماسته للحوار لحل الأزمة، برغم إقراره بعدم تحقيق أي نجاح، فواصل لقاءاته مع الجميع بمن فيهم الرئيس هادي في عدن وسط خلافات حول مكان استئناف الحوار ومن يحضره وانسحاب هذا الفريق أو ذاك.
**تأييد دولي وأقليمي لهادي**
والموقف الدولي ممثلا في مجلس الأمن قرر عدم اعترافه بالتغيير الذي أحدثه الحوثيون ومطالبته بالعودة إلى الحوار وفقا للمبادرة الخليجية، مع التأكيد على أن السلطة الشرعية هي سلطة الرئيس المنتخب هادي، وضرورة عودة الحوثيين عن كل مظاهر التغيير التي أحدثوها، وواصل العمل بالعقوبات التي قررها للضغط على الجميع حتى يعودوا إلى الحوار ويحتكموا له.
ومجلس التعاون الخليجي أعلن تأييده لشرعية الرئيس هادي ورفضه لكل ما فعله الحوثيون، وسارع بتجديد الموقف بتواصله مع هادي عقب تمركزه في عدن.
وقد قابل عبد الملك الحوثي كل ذلك بالرفض وسعى إلى إيجاد حكم مواز في صنعاء مضاد للحكم الجديد المتمركز في عدن.
**رفض شعبي للحوثيين**

وعلى المستوى الشعبي واجه الحوثيون رفضا من عديد القبائل الذين أعدوا العدة للدفاع عن محافظاتهم وصد التوسع المسلح من جانب هؤلاء بينما تواصلت المظاهرات الرافضة لهم في العاصمة ومدن أخرى وقابل الحوثيون كل ذلك أيضا بالرفض والقمع أحيانا.
**اليمن.. حالة استثنائية**
في كل الأحداث المتسارعة يستطيع المراقب أن يقف عند بادرة أمل في حلحلة الموقف المتأزم، ولكنه سرعان ما يفاجأ بحدث مناقض تماما يدفع إلى التصعيد المتبادل وإلى تبدل رؤى ومواقف الفرقاء السياسيين، فينتفي أثر التفاؤل ويعود الوضع إلى حالة التشاؤم.
ومن الملفت أن عديد المحللين والمعلقين من اليمنيين المعنيين بالأزمة يسارعون بإطلاق الأحكام والترويج لوضع ما بناء على هذا الحدث أو ذاك، مع أن الزمن لا يسعفهم كثيرا وسرعان ما تتلاشى تقديراتهم وتوقعاتهم.
مثل هذه الحالة في التعامل مع الأحداث المصيرية تجعل اليمن استثناء يستعصى فهمه أو يسهل سبر أغواره وتحديد مساراته. هي حالة تتضمن الشيء ونقيضه في نفس الوقت حيث القدرة على تبني مقومات الحوار ومقومات الصراع أيضا وتبادل المواقع بين لحظة وأخرى دون معايير محددة. لقد خاض اليمنيون ثورة للتغيير ولكنها أبقت على النظام القديم من اللحظة الأولى، وخاضوا تجربة رائعة في الحوار الوطني جعلت الجميع يشيد بهم ويعتبرها نموذجا يحتذى ولكنهم سرعان ما أسقطوا هذا الإنجاز وعادوا إلى نقطة الصفر. لقد رفعوا رايات السلام الاجتماعي والتوافق السياسي ثم انزلوا هذه الرايات وحلوا محلها السلاح والانقسام السياسي الحاد، كل ذلك في فترة وجيزة، وبمشاركة من الكل لا استثناء لأحد في تحمل المسؤولية عن مثل هذه التحولات الدراماتيكية المدمرة.
ولعل هذه الحالة اليمنية التي تجمع بغرابة بين الأضداد وتفتح الباب دائما للمفاجأة السارة وغير السارة هي التي تفسر سر التمسك حتى آخر نقطة من العرق في جهود الحل السلمي للأزمة، فطالما أن هناك ثقافة تسمح بالحوار مثلما تسمح بالعنف يبقى احتمال نجاح الحل السلمي واردا. هو خيار ممكن في كل الأحوال، ولعل تجربة الحوار الوطني وتبني المبادرة الخليجية خير دليل على إمكانية المراهنة على فاعلية الحوار.
فقط يحتاج الأمر إلى توفير فرص نجاحه ومتابعة تنفيذ ما يتوصل إليه من نتائج.
وبناء عليه فإن المشهد اليمنى المعقد ليس جديدا لا على اليمنيين ولا على الأطراف الأخرى المعنية بالشأن اليمني. فرغم ما يحمله من مؤشرات على الصراع المتبادل فإنه يحمل في نفس الوقت مؤشرات على التفاهم والتسوية السلمية وبناء اليمن الجديد.
لقد شهد اليمن في الماضي حالات مماثلة للوضع الراهن مع فارق الظروف، ورغم ذلك توصل إلى حلول بالتوافق. صحيح أنها انهارت ولكنها حدثت بما يجعل تاريخ البلاد مراحل من الصراع والتفاهم والاستقرار معا.
لنا أن نتذكر سنوات التسعينيات من القرن الماضي باعتبارها الأقرب تاريخيا وفيها خاض الشمال والجنوب حربا بسبب الانفصال، ولنا أن نتذكر أن انتقال السلطة في غالب الزمان لم يكن سلميا وإنما عبر عديد الانقلابات العسكرية.
من المنطلق السابق تصبح جميع الخيارات واردة بالنسبة للمشهد الراهن، فمثلما يمكن للبعض الحديث عن إمكانية تجاوز الأزمة، يمكن للبعض الآخر الحديث عن استمرارها بكل ما تسببه من تكلفة تجعل اليمن على شفا الانهيار كما قال الوسيط الدولي جمال بن عمر أمام مجلس الأمن.
**خيارات ثلاثة..
ويمكن تحديد هذه الخيارات في ثلاثة هي خيار الحرب الأهلية وخيار التقسيم وخيار المصالحة.
فأما عن الحرب الأهلية فإن عواملها موجودة، حيث أدى انتشار الحوثيين في مناطق عدة إلى استنفار أبناء المناطق التي ترفض تدخلهم للذود بقوة السلاح عنها حماية لأراضيهم وللثروات الموجودة بها ودفاعا عن وجود القبائل ذاتها. ولأن الحوثيين شيعة وبقية أبناء اليمن سنة فقد امتزج العامل الطائفي الديني مع الجغرافي والقبلي ليشكلوا معا وقودا لحرب أهلية محتملة.
الحوثيين
الحوثيين

ولم يقف الأمر عند مجرد الاحتمال، بل ظهرت له دلائله وقرائنه من واقع الاشتباكات الدموية التي حدثت فعلا ولا تزال بين الطرفين، كما جدد الموقف الصراع القديم بين الشمال والجنوب حيث تم النظر للهيمنة الحوثية ومحاولة غزو الجنوب على أن الوضع أصبح صراعا دمويا بين شمال البلاد تحت قيادة الحوثيين والجنوب الذي يتأهب للانفصال منذ زمن.
وأما عن خيار التقسيم فهو وارد أيضا وبقوة، بالنظر لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني ذاته التي قررت تقسيم اليمن إلى 6 مناطق كل منها يضم عددا من المحافظات (الولايات) المتجاورة.
ومع أن شكل الدولة الجديدة التي خلص لها الحوار يؤكد أنها اتحادية أي لها سلطة مركزية، فإن الانطباع العام ذهب إلى أن ذلك تقسيم من الناحية الفعلية.
الجنوب
الجنوب

ولا يخفي أن قضية كهذه أخذت شدا وجذبا بين المشاركين في مؤتمر الحوار، ورغم إقرارها فإنها ظلت مصدرا للقلق والخلاف، بل كانت أحد مبررات الحوثيين للانقلاب على السلطة استنادا إلى أن تقسيم اليمن على هذا النحو يعنى التفريط في وحدة البلاد، فضلا عن أن الجنوبيين لم يوافقوا عليه تماما فالحراك الجنوبي يصر على الانفصال.
وعمليا فإنه منذ اندلاع حركة الحوثيين وما ترتب عليها من انهيار السلطة المركزية، أصبح التقسيم واقعا فعليا، ليس في شكل المناطق وإنما على مستوى المحافظات برمتها التي تكاد تدير أحوالها بشكل مستقل.
وإذا كانت الحرب الأهلية من ناحية والتقسيم من ناحية أخرى هما الوجه الواضح لجانب الصراع في المشهد اليمني وهو الجانب الذي يحرص كل فريق على أن يغسل يديه منه، بمعنى أنه لا يقبله، بحكم ما يسببه من خسائر جمة عليه مثل غيره، فإن الخيار الأخير أي خيار المصالحة يبقى طوق النجاة. وبرغم المشهد القاتم الذي يتجسد في بعض المظاهر الدالة على الخيارين السابقين، لا يزال هذا الخيار ليس فقط مطروحا بل ممكنا حيث هناك رغبة في الحوار بدعم دولي وإقليمي لها شواهدها في اللقاءات التي تجرى بين وقت وآخر. وبما أن التاريخ يشير إلى أن اليمنيين خاضوا صراعات شتى وحوارات شتى أيضا، يظل تحقيق المصالحة واردا.
التوقيت والكيفية مرتبطان باقتناع الجميع بأنه لا جدوى من الانسياق إلى خيار الحرب أو التقسيم.
عن صحيفة “عُمان” الصادرة اليوم الأحد

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى