> د. راتب سكر
استقبل الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين استقبالًا مُضطردًا سيلًا من المصطلحات الفكرية والثقافية، ولد قليلها في رحم الاجتهاد الثقافي العربيَّ المتنامي في البلاد العربيَّة، وتدفق معظمها بعمليات الترجمة المتنوعة الرؤى والأساليب لمنجزات الثقافة العالمية لا سيما الأوربية في هذا المضمار.
تزاحمت دلالات تلك المصطلحات، وتناقضت أحيانًا في خضم تداولها من المثقفين العرب، الذين أهملوا التقيد بمعانيها اللفظية المعجمية في أحيان كثيرة، مُدركين أهمية المعاني الاصطلاحية المتولدة في بنياتها، ومحاولين تفهم تنوعها في المنجز الثقافي العربي والعالمي.
لقد باتت الحاجة مُلحة إلى تنشيط المحاورات الهادئة لعلاقة الثقافة العربيَّة بالمصطلح، ومن الراجح أن ترشيد مثل هذه المحاورات وترتيبها في أطر الاختصاص من الأهمية بمكان ما دام تداول المُصطلحات علميًا يتأسس غالبًا على أوراق دراسات علمية جادة.
اتجه علم الأدب في العصر الحديث إلى توظيف مصطلحيّ "القومي" و"العالمي" اتجاهات مُتنوعة، من أبرزها الاتجاهان اللذان ربطا دلالات هذين المصطلحين بمضمون الأدب وانتشاره، فبالنظر إلى المضمون تم تناول مُصطلح "الأدب القومي" للدلالة على الأدب الذي يعنى مضمونه بقضايا النضال القومي لشعب من الشعوب، بينما تم تناول مُصطلح "الأدب العالمي" مُرادفًا لمصطلح "الأدب الإنساني" للدلالة على الأدب الذي يعنى مضمونه بالقضايا الإنسانية العامة.
وبالنظر إلى التأثير والانتشار تم تناول مُصطلح "الأدب القومي" للدلالة على أدب شعب من الشعوب بإطار تأثيره وانتشاره في المحيط القومي لذلك الشعب، بينما تم تناول مُصطلح "الأدب العالمي" للدلالة على الأدب الذي يتحقق له تأثير وانتشار خارج حدود المحيط القومي الذي ولد فيه.
تحقق للاتجاه الثاني اهتمام واسع ومُتصاعد في الدراسات الأدبية العربيَّة منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين بتأثير مؤثرات ثقافية وسياسية مُتنوعة، لعل أبرزها تنامي الاهتمام العربي بالأدب المُقارن الذي عد مفهوم "الأدب القومي" ركيزة أساسية لتشييد مناهجه الهادفة إلى دراسة "الظواهر الأدبية خارج حدود الآداب القومية التي تنتمي إليها".
تنطلق هذه النظرة من رؤية كل أدب من الآداب مُرتبطًا بلغة معينة، واللغة بدورها مُرتبطة بأمة أو بشعب، أي بقومية معينة، وإذ ترى أن نحو خمسة وتسعين بالمئة من سكان العالم يستخدمون مئة لغة من لغات العالم (البالغ عددها نحو خمسمائة وألفي لغة) تتوصل إلى عد آداب العالم مُرتبطة باللغات التي كُتب بها مطلقة على كل أدب من تلك الآداب تسمية "أدب قومي".
كان انتشار مُصطلح "الأدب القومي" بالمنظور السابق قد تعزز في الثقافة العربية مع ظهور مؤلفات د. محمد غنيمي هلال المُتلاحقة منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، إذ يرد المصطلح في مقدمة الطبعة الأولى 1953م لكتابه الشهير (الأدب المُقارن)، وفي فصوله محافظًا على ارتباط دلالته الاصطلاحية باللغات، قبل القوميات بمثل قول هلال : "الأدب المُقارن" (.. يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة)، وقوله (الحدود الفاصلة بين تلك الآداب هي اللغات فلغات الآداب هي ما يعتد به الأدب المُقارن).
ظل مصطلح الأدب القومي يثير مناقشات مستفيضة في مضمار الأدب المقارن، مبعثها في الغالب، مُرتبط بوجود أدباء يكتبون بلغات متنوعة تحت مظلة "الأدب القومي" (كبعض الأدباء الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية من جهة، ووجود أدباء ينتمون إلى قوميات متنوعة يكتبون بلغة مشتركة واحدة كمعظم أدباء البلدان الناطقة بالانكليزية من جهة أخرى)، غير أن الاتجاه السائد يكاد يوجه دلالة المصطلح إلى تماهيها مع دلالة الانتماء القومي، بدلًا من اعتبار التجلي اللغوي لذلك الانتماء أساسًا في حساب الحدود بين الآداب تواكب انتشار مُصطلح "الأدب القومي" بالرؤية السابقة مع بروز مُصطلح الأدب العالمي ونظيره "عالمية الأدب" مما يجعل متابعة معالم ذلك البروز مفيدًا في انجاز تفهم أمثل لدلالات هذان المصطلحين في الثقافة العربية.
ميز د. محمد غنيمي هلال بين مصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب"، ورأى أن فكرة (الأدب العالمي) مُستحيلة التحقيق؛ ذلك أن الأدب قبل كل شيء- استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية للوطن وللقومية- مُبينًا أن معنى عالمية الأدب: هو خروج الآداب من حدودها القومية، طلبًا لكل ما هو جديد مفيد تهضمه وتتغذى به واستجابة لضرورة التعاون الفكري والفني مع بعض.
إن التمييز بين مصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب" لا يبرز دائمًا؛ فهما يترادفان لدى غير باحث في الثقافة العربية، حيث يقول د. عبده عبود: "أصبح (الأدب العالمي) في أيامنا مفهومًا شائع الاستخدام.. كما أصبحت كل أمة تطمح إلى إضفاء صفة العالمية على بعض من أعمال أدبها القومي.. وعالمية الأدب مسألة تعني الأدب المُقارن بشكل مباشر وصميم؛ لأنها تتعلق بظاهرة أدبية تتجاوز الأدب القومي الواحد".
من الواضح أن ترادف مُصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب" في الرؤية السابقة ينأى عن مفهوم "عالمية الأدب" ودلالاته في بحوث د. محمد غنيمي هلال، ولا يؤسس لاستمراريته، مما يشير إلى معالم أزمة في تداول المفاهيم والمصطلحات في الثقافة العربية المعاصرة.
وإذا تذكر المرء أن د. محمد غنيمي هلال نفسه قد وظف مُصطلح "عالمية الأدب" محل مُصطلح "الأدب العالمي" في الفصل الثاني من الباب الأول من كتابه المذكور سابقًا، تأكدت لديه الحاجة إلى مناقشة التداول الثقافي العربي للفاهيم والمصطلحات.
* شاعر سوري.
تزاحمت دلالات تلك المصطلحات، وتناقضت أحيانًا في خضم تداولها من المثقفين العرب، الذين أهملوا التقيد بمعانيها اللفظية المعجمية في أحيان كثيرة، مُدركين أهمية المعاني الاصطلاحية المتولدة في بنياتها، ومحاولين تفهم تنوعها في المنجز الثقافي العربي والعالمي.
لقد باتت الحاجة مُلحة إلى تنشيط المحاورات الهادئة لعلاقة الثقافة العربيَّة بالمصطلح، ومن الراجح أن ترشيد مثل هذه المحاورات وترتيبها في أطر الاختصاص من الأهمية بمكان ما دام تداول المُصطلحات علميًا يتأسس غالبًا على أوراق دراسات علمية جادة.
اتجه علم الأدب في العصر الحديث إلى توظيف مصطلحيّ "القومي" و"العالمي" اتجاهات مُتنوعة، من أبرزها الاتجاهان اللذان ربطا دلالات هذين المصطلحين بمضمون الأدب وانتشاره، فبالنظر إلى المضمون تم تناول مُصطلح "الأدب القومي" للدلالة على الأدب الذي يعنى مضمونه بقضايا النضال القومي لشعب من الشعوب، بينما تم تناول مُصطلح "الأدب العالمي" مُرادفًا لمصطلح "الأدب الإنساني" للدلالة على الأدب الذي يعنى مضمونه بالقضايا الإنسانية العامة.
وبالنظر إلى التأثير والانتشار تم تناول مُصطلح "الأدب القومي" للدلالة على أدب شعب من الشعوب بإطار تأثيره وانتشاره في المحيط القومي لذلك الشعب، بينما تم تناول مُصطلح "الأدب العالمي" للدلالة على الأدب الذي يتحقق له تأثير وانتشار خارج حدود المحيط القومي الذي ولد فيه.
تحقق للاتجاه الثاني اهتمام واسع ومُتصاعد في الدراسات الأدبية العربيَّة منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين بتأثير مؤثرات ثقافية وسياسية مُتنوعة، لعل أبرزها تنامي الاهتمام العربي بالأدب المُقارن الذي عد مفهوم "الأدب القومي" ركيزة أساسية لتشييد مناهجه الهادفة إلى دراسة "الظواهر الأدبية خارج حدود الآداب القومية التي تنتمي إليها".
تنطلق هذه النظرة من رؤية كل أدب من الآداب مُرتبطًا بلغة معينة، واللغة بدورها مُرتبطة بأمة أو بشعب، أي بقومية معينة، وإذ ترى أن نحو خمسة وتسعين بالمئة من سكان العالم يستخدمون مئة لغة من لغات العالم (البالغ عددها نحو خمسمائة وألفي لغة) تتوصل إلى عد آداب العالم مُرتبطة باللغات التي كُتب بها مطلقة على كل أدب من تلك الآداب تسمية "أدب قومي".
كان انتشار مُصطلح "الأدب القومي" بالمنظور السابق قد تعزز في الثقافة العربية مع ظهور مؤلفات د. محمد غنيمي هلال المُتلاحقة منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، إذ يرد المصطلح في مقدمة الطبعة الأولى 1953م لكتابه الشهير (الأدب المُقارن)، وفي فصوله محافظًا على ارتباط دلالته الاصطلاحية باللغات، قبل القوميات بمثل قول هلال : "الأدب المُقارن" (.. يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة)، وقوله (الحدود الفاصلة بين تلك الآداب هي اللغات فلغات الآداب هي ما يعتد به الأدب المُقارن).
ظل مصطلح الأدب القومي يثير مناقشات مستفيضة في مضمار الأدب المقارن، مبعثها في الغالب، مُرتبط بوجود أدباء يكتبون بلغات متنوعة تحت مظلة "الأدب القومي" (كبعض الأدباء الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية من جهة، ووجود أدباء ينتمون إلى قوميات متنوعة يكتبون بلغة مشتركة واحدة كمعظم أدباء البلدان الناطقة بالانكليزية من جهة أخرى)، غير أن الاتجاه السائد يكاد يوجه دلالة المصطلح إلى تماهيها مع دلالة الانتماء القومي، بدلًا من اعتبار التجلي اللغوي لذلك الانتماء أساسًا في حساب الحدود بين الآداب تواكب انتشار مُصطلح "الأدب القومي" بالرؤية السابقة مع بروز مُصطلح الأدب العالمي ونظيره "عالمية الأدب" مما يجعل متابعة معالم ذلك البروز مفيدًا في انجاز تفهم أمثل لدلالات هذان المصطلحين في الثقافة العربية.
ميز د. محمد غنيمي هلال بين مصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب"، ورأى أن فكرة (الأدب العالمي) مُستحيلة التحقيق؛ ذلك أن الأدب قبل كل شيء- استجابة للحاجات الفكرية والاجتماعية للوطن وللقومية- مُبينًا أن معنى عالمية الأدب: هو خروج الآداب من حدودها القومية، طلبًا لكل ما هو جديد مفيد تهضمه وتتغذى به واستجابة لضرورة التعاون الفكري والفني مع بعض.
إن التمييز بين مصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب" لا يبرز دائمًا؛ فهما يترادفان لدى غير باحث في الثقافة العربية، حيث يقول د. عبده عبود: "أصبح (الأدب العالمي) في أيامنا مفهومًا شائع الاستخدام.. كما أصبحت كل أمة تطمح إلى إضفاء صفة العالمية على بعض من أعمال أدبها القومي.. وعالمية الأدب مسألة تعني الأدب المُقارن بشكل مباشر وصميم؛ لأنها تتعلق بظاهرة أدبية تتجاوز الأدب القومي الواحد".
من الواضح أن ترادف مُصطلح "الأدب العالمي" ونظيره "عالمية الأدب" في الرؤية السابقة ينأى عن مفهوم "عالمية الأدب" ودلالاته في بحوث د. محمد غنيمي هلال، ولا يؤسس لاستمراريته، مما يشير إلى معالم أزمة في تداول المفاهيم والمصطلحات في الثقافة العربية المعاصرة.
وإذا تذكر المرء أن د. محمد غنيمي هلال نفسه قد وظف مُصطلح "عالمية الأدب" محل مُصطلح "الأدب العالمي" في الفصل الثاني من الباب الأول من كتابه المذكور سابقًا، تأكدت لديه الحاجة إلى مناقشة التداول الثقافي العربي للفاهيم والمصطلحات.
* شاعر سوري.