كل شبر وحجر من حجارها تحكي قصص المعتدين على الضالع..«دار الحيد» القلعة التي جعلت قطعان الغزاة تجر وراءها أذيال الهزيــمة

> تقرير: شايف الحدي

> *عظمة وشموخ
غير بعيد عن القلعة العُثْمانيّة تقف قلعة دار الحيد شاهدةً على عراقة الضّالع بشموخها وكبريائها تتحدى كل الغزاة وأعداء الزمن، قلعة شمّاء شهيرة الامتناع بالغة الارتفاع.. كل هذه السّمات تختزلها قلعة دار الحيد، بعظمتها وعنفوانه، التي لا تقام؛ إذ جسّدت معاني الكبرياء والعزّة والشموخ بكل رقيّها وجمالها، حتى صارت لها مكانتها ورمزيتها.
تقع قلعة دار الحيد أو القلعة الأميرية البيضاء على قمة ربوة صخرية مرتفعة عن سطح مدينة الضالع إلى جهة الجنوب، وهي شامخةً محملة بعبق التاريخ وسبر أغواره التي لا تنتهي.
وتتكون (القلعة الأميرية) من أربعة أدوار، وتقع إلى الغرب من القلعة العُثْمانيّة التاريخيّة، وتلتف عليها أسوار عتيقة تتخللها أبراج المراقبة وشرفات دفاعية، وبنيت هذه القلعة لغرض الدفاع عن المدينة ولتكون مقرًّا لحكم أمراء الأسرة الأميرية؛ وهذه الأبراج الشامخة التي تحيط بالقلعة الأميرية كانت وظيفتها الأساسية حراسة عاصمة الإمارة، ولا تزال تلك التحصينات ماثِلة للعيان وشاهدة على حقبة زمنية من تاريخ الضالع الحافل بالمآثر الخالدة، الذي يحكي قصصًا عن مراحل مختلفة.
*عَبَقُ التاريخ في كل زوايا طرقاتها
وتتميّز عمارة قلعة دار الحيد بهذا الشكل الهندسي الجميل، وبدقة وعظمة الفن المعماري، الذي يعكس التطور الملحوظ في فنون العمارة العسكرية من خلال طريقة عمارتها في تلك الحقبة الزمنية من تاريخ إمارة الضّالع، التي يعود تأسيسها إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وهي أصغر وأقدم إمارة جنوبية، كما ذكرها المؤرخ أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب.
وبجانب القلعة الأميرية توجد الكثير من المباني التاريخيّة التي لعبت دورًا حيويًا في تاريخ إمارة الضالع؛ فالقلعة لازال عَبَقُ التاريخ فيها حاضرًا، وتستطيع أن تستنشقه في كل زوايا طرقاتها، لدى كل بوابة، وعند كل صرح.
*الأسرة الأميرية
وبالعودة تاريخيًّا إلى الوراء، فإن الأسرة الأميرية التي حكمت إمارة الضالع وملحقاتها منذُ أكثر من ستمائة عام، كان بداية تأسيس كيانها تحت اسم (إمارة خرفة) في بلاد حالمين، قد اتخذت من خرفة عاصمة لإمارة الضالع تحت حكم مؤسسها الأوّل الأمير شعفل الأميري، وهو من آل أحمد، إحدى القبائل اليافعية، وكان آخر حكام الأسرة الأميرية التي حكمت إمارة الضالع بالتسلسل الزمني واتخذ من قلعة دار الحيد مقرًّا لحكمه، هو الأمير ـ شعفل بن علي شايف بن سيف بن عبدالهادي بن حسن بن أبوبكر بن حسين بن أحمد بن عبدالهادي بن أبوبكر بن أحمد بن صالح بن شعفل بن قاسم بن شعفل الأميري.
وقلعة دار الحيد الاستراتيجيّة بنيت في آخر حكم أمراء هذه الأسرة الأميرية بعد أن انتقلت عاصمتهم إلى مدينة الضالع من منطقة السرير بجبل جحاف إلى (دار الإمارة السفلى) قبل أن تكون قلعة دار الحيد مقرًّا لآخر أمراء إمارة الضالع الأميرية من الفترة (1954 ـ 1967م).
وتذهب الروايات المتواترة عبر الأجيال المتعاقبة إلى القول بأن قلعة دار الحيد بناها الأمراء من (آل أحمـد) على أنقاض بقايا إحدى القلاع القديمة التي تضرب بتاريخها سبر أغوار التاريخ للمنطقة، ولا زالت هذه القلعة صلبة المراس، رغم ما تعرضت له من قصف في الحرب الأخيرة، وتقف صامدة على تلة تراقب الأحداث عن كثب وكأنها الحارس الأمين لمدينة النضال والصمود، حتى يخيّل للمرء بأن هذه القلعة التاريخيّة المسماةُ بدار الحيد بمجرد مشاهدتها تجول بك الذكريات إلى فترة زمنية من الماضي التليد أثناء حكم (الأسرة الأميرية)، التي حكمت إمارة الضالع وملحقاتها بالتسلسل الزمني لأكثر من ستمائة عام؛ ولا يزال منظر القلعة يوحي بذكريات الماضي، وتشتد بها عزيمة البقاء الأزلي للمجد المتربع فوق سجل التاريخ؛ فهي القلعة التي صمدت في وجه الغزاة، وسجلت ملاحم بطولية تحكي قصّة التحام المصير ونخوة الرجال، ففي باحة القلعة تؤكد مسيرة الزمن وجودها وتتواجه الأحداث في منظر عجزت شطحات الأقلام عن وصفه..!
*عرين المقاومة
إنّه دار الحيد عرين المقاومة ورمز الصمود والنصر المفعم برائحة البارود وعطر الدماء التي روت كلّ أركانه في واحدٍ وستين يومًا من الصمود الإسطوري.
وكل زائرٍ لمدينة الضالع لا بد أن تصافح عيناه قلعة دار الحيد التي تعلو المدينة، وكأنها تعانق السحاب، والتي تُعدّ أكبرُ مزارٍ تاريخيِّ وسياحي على الأطلاق نظرًا لبنائها الضخم والمتين، ولكونها أكثر القلاع متانة وتكاملا، ولتصميماتها الهندسية الفريدة وفق أبعاد عسكرية وتضاريس معينة؛ بل يأخذ هذا الدار الشكل المربع، الذي يتخلله فتحات وشرفات لأغراض دفاعية، وتشغل هذه القلعة موقعًا مميزًا واسترتيجيًّا في مدينة الضّالع، وقد أقيمت على أنقاض أطلال دارسة لبقايا حصن قديم.
والمتأمل إلى شموخ هذه القلعة يجد أن أمراء الضالع قد بنوا القلعة لتكون مقرًّا لحكمهم، ويمكن حصر فترة بنائها إلى نهاية حكم قائد معركة تحرير الإمارة وملحقاتها من الإحتلال الزيدي عام 1928م، الأمير الثائر نصر بن شايف بن سيف بن عبدالهادي حسن الأميري، وبداية حكم ابن شقيقه الأمير شعفل بن علي شايف الأميري.
وتطل هذه القلعة الشامخة على أجزاء كبيرة من مدينة الضالع، ومع التوسع العمراني الملحوظ باتت هذه القلعة الجميلة بكبريائها وشموخها تتوسط المدينة وتشرف عليها من جميع الجهات وتوفر هذه القلعة التاريخيّة لزائر اليوم فرصة فريدة لمعايشة التاريخ عن قرب.
وتبقى قلعة دار الحيد شاهدة على أصالتها العريقة وأهميّتها الجيوستراتيجيّة والجيوسياسيّة والجيوعسكريّة والجيوثقافيّة، وكانت وما زالت تلعب دورًا كبيرًا في إعطاء صورة رائعة عن أصالة تاريخ هذه المدينة التي أرتبط اسمها بالتاريخ النضالي، وتصديها للغزاة في كل المنعطفات والمراحل التاريخيّة ليطلق عليها اسم:(الضالع..مقبرة الغزاة)؛ فقلعة دار الحيد لها أهميّة تاريخيّة كبيرة في تاريخ إمارة الضّالع، وتمثل رمزًا مهمًا للضالع، فالموقع الذي أقيمت عليه القلعة لم يكن بمحض الصّدفة؛ بل موقع مهم في مكان حساس على شريان المدينة من جميع الاتجاهات.
*صمود مدينة قاومت فلول الغزاة:
وفي الحرب الأخيرة مع ميليشيات الحوثي والجيش الموالي لها كان لهذه القلعة الصّامدة نصيب الأسد من الدمار الجزئي، الذي طالها جراء نيران سلاح المدرعات والمدفعية المختلفة، إلّا أن مقاومتها الباسلة صمدت وقاومت فلول الغزاة، ولم تضعف لها عزيمة، وتصدت لهم بكل بسالة وضربت أروع ضروب الشجاعة، لتحكي بذلك قصّة صمود مدينة بوجه الغزاة ودورها المرسوم بحكم التاريخ والجغرافيا، وكيف كان كلّ شبرٍ وركن وزاوية من قلعة دار الحيد يقاوم ويكتب التاريخ النضالي الأسطوري لهذه المدينة، التي كانت حقًا مقبرةً للغزاة وأوّلى المدن تحررًا من قبضة الميليشيات والجيش الموالي لها؛ لقد كانت ملحمة صمود دار الحيد وقلاعه قصّة كُتبت بدماءِ الشهداء، الذين روُوّا بالدم كلّ حجرٍ من أحجار الدار .
وعاشت المدينة أسابيع تحت الحصار الخانق ونيران ولهيب مجنزرات ومدفعية قائد الإجرام العسكري المدعو عبدالله ضبعان وميليشيات مران، وصمود شباب المقاومة الجنوبيِّة بين ثنايا القلعة ووسط الرُّكام المتناثر وأكوام الحجارة المنهارة، والذي مثّل خندقًا ومركزًا لشباب المقاومة، انطلقت تكبيرات النصر وترانيم البطولة تشد سواعد كل مقاومٍ عشق تراب هذه المدينة الصامدة عدد قطرات دمه، التي بعثت من بين أكوام الدمار جراء وحشية الآلة العسكرية للغزاة، وهكذا سطّر الصّامدون والمرابطون في أكناف دار الحيد وقلاعه بكفاحهم وصمودهم الأسطوري قصّة كفاح مدينة، ليضربوا بذلك أكبر معاني النبل والتضحية في حماية المدينة، ليصنعوا بذلك عزّة ورفعة ومجْدًا أضاء الطريق لكلِّ مقاومٍ لطرد كل غازٍ من ثرى أرضه.
*مدينة القذائف المتفجرة
حقًا لقد كانت الضّالع مدينة (القذائف المتفجرة)، لكثرة ما أطلق عليها من نيران مدمرة حتى صار حيّا (دار الحيد والعرشي) يطلق عليهما بالينينجراد نسبة لهذه المدينة الصامدة التي صمدت في وجه الاجتياح النازي في الحرب العالميّة الثانية؛ ولكن هاهي هذه المدينة الصّامدة تنبعث من رمادها من جديد.
وبعد انقشاع غبار المعارك لا زال هذا الدار يحكي قصّة صموده، وصمود المدينة وكل منطقة في الضالع أمام جحافل الغزاة، ويروّي قصص أولئك الأبطال الذين نسجوا بقطرات دمائهم نصر وصمود هذه المدينة وكل مناطق الضالع دون أستثناء.. إنّها قصص ثبات ورسوخ وصمود سطّرت أروع ملاحم البطولة والشجاعة والفداء لأبناء هذه المحافظة قلعة النضال والصمود ومقبرة الغزاة أمام جبروت وهمجية وفظاعة جرائم الغزاة..إنّها إرادة التحدي والتصدي التي فطرت عليها وتميّز بها أهلها عبر كل الأزمان.
*مقبرة للغزاة:
هكذا كانت الضالع عصيّة تتكسّر على إرادتها كل جحافل الغزاة، ولم تستكن يومًا لغازٍ، ولم تستلم لمعتدٍ غاشم، وظلت عبر التاريخ قلعة صمود تنحسر أمامها كل أطماع الغزاة الزيود؛ فكانوا في ترابها يدفنون..إنّها الضالع رمز الكرامة والعزّة وعنوان الإباء، دون أن يهتز لمقاومتها رمش من جبناء حاولوا تركيعها بكل ما أوتوا من قوة، ورغم العدد الكبير من الشُهداء والجرحى والدمار الهائل للمباني والمدارس والمساجد، إلّا أنّها انتفضت من تحت الأنقاض كطائر الفينق ليحيا من جديد.
*مرّغت أنف الغزاة
ومع كل ما تمخّضت عنه هذه الحرب الظالمة من دمار؛ فإن الضّالع ومعها كل الأحرار وعشاق الحُرِّية أحرزت النصر ومرّغت أنف الغزاة في التراب؛ ولكن أمام هذا كلّه تجلى الصّمود الذي لا يضاهيه صمود والصبر الذي تكسر أمامه أحلام الغزاة وأمنياتهم.
إنّها قلعة المقاومة والنصر الضالعية، التي كانت ساحةً للوغى وجعلت قطعان الغزاة يجرون ورائهم أذيال الهزيمة.. هي ضالع المجد والعُلى بها هاماتنا ترتفع إلى العلياء.. أبدًا لن تنكسر..لم ولن تنحني يومًا لغازٍ؛ فقد كتبت تاريخ صمودها وعزّتها وكرامتها، وعمدته بدماءِ أحرارها..عشاق النصر والمجد والخلود؛ فكانت حقًا مقبرة للغزاة، لم يعد منها غازيًا تجرى على إحتلالها، فالتاريخ خير شاهد على ملاحمها البطولية ويروّي لنا أمجادها الخالدة؛ فهي لا تعرف في قاموسها الحافل بمآثر سفره الخالدة، إلّا النصر على كل غازٍ.
*أسطورة الثّائرين:
وهكذا ظلت الضالع وفيّة لتاريخها العريق المتسم بالكبرياء والشموخ ورفض الذل والهوان مهما كان الثمن..أمام حُرِّيتها تهوّن التضحيات مهما كانت؛ فغدت اليوم ضالع الثورة وقلعة الصمود وأسطورة الثائرين، رمزًا من رموز الثورة وأيْقُونة من أيقونتها المُلهمة، وأصبح موقعها الثوّري استرتيجيًّا بمقدار أهميّتها التاريخيّة؛ فهي باختصار بوصلة الأحرار، وقبلة الثوار، وأرض الأحرار، ومدرسة النضال.
*ضالع العنفوان والعــزّة:
على مدار إحدى وستين يومًا صمدت المقاومة الجنوبيِّة تدافع عن كل شبرٍ في الضالع.. هذا العنفوان بالحماس الثوري زاد من جسارة المقاومة، التي خلفت أمثلة بطولية في التصدي والصمود الإسطوري، وصنعوا مجد هويّتهم الجنوبيِّة بدمائهمِ الطاهرة، ودفعوا حياتهم ثمنًا لها كضريبة الأنتماء لهذه الهويّة والمرجعيّة الجنوبيِّة الضاربة في أعماق التاريخ.
ويحكي كل شبرٍ وحجر من حجارتها قصص الغزاة الذين مروا منها يجرون أذيال الهزيمة.. قصص شهداء روّت دمائهم أرض الوطن وأزدهرت نصرًا.. قصص انتصار الدم على الآلة العسكرية..
رحل الغزاة إلى مزبلة التاريخ وبقيت الضالع صامدة شامخة كجبال جحاف وحرير والشعيب الأبيّة.
وهكذا تحولت الضّالع بشموخ مقاومتها إلى رمز لإنكسار الغزاة على أسوارها.
*ختامـــًا:
إنّ دار الحيد وقلاعه يستحق منّا أكثر من ذلك بكثير، فهو خير شاهد على تاريخ منطقة الضالع وعظمتها، واستطاع أن يقاوم عوادي الزمن ويسجل اسمه بأحرفٍ من نور لمدينةٍ الشُهداء التي تستحق بوزنها ذهبًا؛ فتحيّة إجلال واعتزاز وتقدير من كل صخرة صمّاء في دار الحيد وقلاعه، لمن مجّدوا تُراب الوطن، فاستحقوا المجد والخلود والعزّة والكرامة والتّفاني والتضحية؛ ولأنها باختصار شديد..الضّالع العصيّة التي روّت تراب الوطن بدماءِ أبنائها الزكية وسطّرت صفحات مضيئة وحفرت تاريخًا لم يمحَ ولن ينسى أبدًا.. هنيئًا للشهداء الذين روُوّا بدمائهم الطاهرة شجرة الثورة الجنوبيِّة؛ فكانوا شموعًا تحترق لتنير دروب ثرى هذه الأرض الصّامدة، وقدّموا أنفسهم قرابين على مذبح الحُرِّية والكرامة، وصنعوا جسرًا يعبر منه الأجيال، ليتعلموا معنى الكرامة والعزّة والشموخ ليبقى الوطن حُرًّا أبيًّا..والسلام على كل شهيدٍ دُمِغّ بدمه تربة وطنه.
تقرير: شايف الحدي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى