الـصـرخـة

> د. الخضر حنشل

>
د. الخضر حنشل
د. الخضر حنشل
لقاء المغيب في المسجد مهيب لا يشبهُ بقية الّلقاءات وصراخ الناس، وعويلهم بعد الصلاة يزداد وطأةً، ويقتحم مسامع المصلين، فما أن يعلن إمام المسجد عن نهاية الصلاة حتى تتعالى أصوات بعض الناس، ويكثر عويلهم ونحيبهم أطفالًا، ونساءً، وشيوخًا، كلٌ يشرح مأساتهُ ومعاناتهُ على طريقته داعيًا المصلين إلى مساعدته على مجابهة غضب الحياة، وانكسار المعيشة.. هو لا يصرخُ مثلهم ولا يردد عبارات وأدعية.. ينهضُ من صلاته وينسل من بين المصلين، كالأفعى منتحيًا زاوية بعيدة بالقرب من باب المسجد المطل على الشارع الأمامي.. يفرض عمامته الرثة ويجلس القرفصاء عاقدًا ذراعيه حول ركبتيه، ويبقى صامتًا يجول بنظره حول العمامة، ويراقبُ بعض النقود وهي تهبط على العمامة.
عندما يلمح الظلام في خارج المسجد يتيقن أن مساءه قد أوشك عندها على الرحيل، ويجمع نقوده حاملًا عمامته على كتفه، ويتأبط مذياعه، ويلفظ المسجد إلى الخلاءِ مهرولًا مارًا بأزقة المدينة وشوارعها، شارد الذهن، منشغلًا لا يلقي السلام على الناس، كان يحرك عجلة المذياع، وتتعالى أصوات المذيعين والمذيعات والمغنيين والمغنيات.. صوت المذياع يسابق تباريح الريح.. ويمضي في الأثير محلقًا في عنان السماءِ.
كان منشغلا في خطاه، ينحني فقط إذا رأى علمًا يرفرف فوق سفارة أو قنصلية.. ينحني مؤديًا له التحية بابتذال، كما يفعلُ بعض المجانين مرورًا "الثورة تخدمنا.. ونحن يجب أن نخدم الثورة.. ياعمال العالم اتحدوا).
كنت أراهُ وقت صلاة المغرب فقط، لا يخوض مع المصلين غير هذه الصلاة، وبعدها يمضي إلى العراء منفلت الخُطى في يده مذياع قديم، وعلى كتفه عمامته المعهودة.. يمضي خارج المدينة وتبتلعه الصحراء رويدًا رويدًا.. يداعب مذياعه ويعبث به ويحرك عجلته يمينًا وشمالًا، والأصوات تتوالى من هنا وهناك من العرب والعجم، وهكذا، وفي هذه الأثناء يدير عجلة المذياع برفق فيأتي صوت المذياع مجلجلًا في سماء تلك الصحراء:(الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل) وينتفض غضبًا.. ويرمي بالمذياع على الأرض، فيهمد ويصرخ بأعلى صوته (الموت للغربان.. الموت للغربان).. لأول مرة يصرخ عاليًا فينحني ملتمسًا مذياعه، وبعد جهد جهيد يعثر عليه.. وينهضُ مرددًا صرخته المدوية (الموت للغربان والبعوض والجرذان).
كانت الغربان تتعقب خطاه في تظاهرتٍ، وصخب، ويزداد غضبها، ونعيقها كلما اقترب من الشجرة العتيقة الرابضة بمحاذاة الكثبان الرملية المطلة على بحر العرب.. كان يخيّل إليّ أن الغربان ستمزقهُ بمناقيرها إذا لامس غصون تلك الشجرة، أما هو فقد سار نحو الشجرة واقترب منها شيئًا فشيئًا غير عائي بنعيق الغربان وهجومها.. كانت تحلق بالقرب من رأسه، وهو يصرخ بأعلى صوته “الموت للغربان” ويذود بعمامته ومذياعه عن وجهه.. ويمر متحديًا حتى وصل إلى جذع الشجرة ثم يسند ظهره على جذعها.. ويطلق تنهيدةً عاليةً ثم يحاول تحريك عجلة المذياع، ولكن دون جدوى، لقد تعطل المذياع وانفلتت بطارياته في جوف الصحراء.. سرح شاردًا وتعلقت عيناه بشهب في الأفق البعيد وجرفه خياله إلى الماضي.. تذكر أمه فصاح بأعلى صوته، ونهض مسرعًا فارتطم رأسه بجذع الشجرة ووقع على الأرض..
وعلى حين غرة دوى انفجار هائل في جنبات المكان.. وشب الحريق في أوصال الشجرة، وحلقت الغربان في السماء بعيدًا بعيدًا ولم يبقَ منها غير نعيق خافت لا تقوى الرياح على حمله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى