لو كان إلقاء الشِّعر معياراً لما كان أبو تمّام شاعراً!

> عهد فاضل

> على الرغم من الجماليات التي يمكن أن تكتسبها قصائد الشعر، من خلال طريقة الإلقاء، إلا أن الإلقاء، على أهميته، لا يدخل في أي معيارية نقدية. وذلك تبعاً لما أورده النقاد العرب القدامى، في مصنفاتهم، وصولا إلى ما احتكم إليه النقاد العرب الجدد في العصر الحديث. حيث كانت المعايير النقدية مسائل مرتبطة بجماليات بلاغية وبيانية أو فنية معينة.
ويشار إلى أن كل نظريات الشعر العربي بدءا من العصر العباسي، وصولاً إلى عصر الحداثة الشعرية العربية، من الرومنتيكية إلى الشعر الحديث، لم تضع ما يُعرف بالإلقاء الشعري، ضمن معيار يحدد جمال الشِّعر من عدمه. وإنما اختلفت آراء النقاد العرب، وسواهم، على الجماليات البلاغية والبيانية التي تحددها الجملة المكتوبة أو التي تلفظ شفوياً، إلا أن طريقة لفظها، مدّاً أو قصراً، أو تقطيعاً، أو إنشاداً، لا تدخل في معايير الحكم النقدي عليها، ولا على غيرها، خصوصا بعد عصر التدوين وكتابة التراجم والمصنفات، حيث أصبح النتاج الشعري، مكتوباً، يُنقل باليد، ويُقرأ بالعين، لا الصوت، أو الرواية.
ولو كان الإلقاء الشعري يحدّد جمالية الشعر، نقدياً، لكان أول ضحاياه، بلا منازع، أحد أكبر شعراء العربية حبيب بن أوس، الشهير بأبي تمّام. فهذا الشاعر الكبير والذي يقدّمه البعض على المتنبي، كعميد الأدب العربي طه حسين وابن جِلدته محمود سامي البارودي، وقديماً كان ابن النحاس يفضّله على المتنبي، وعلى الرغم من ذلك كانت لديه حبْسة في لسانه إذا تكلّم، كما روى ابن خلّكان في مصنّفه الشهير «وفيات الأعيان وأنباء أبناء هذا الزمان». وقد أثّرت هذه الحبْسة في نطقه إلى درجة هجاه بسببها مخلّد الموصلي، إنما معترفاً بشعريته، وذلك في قصيدة تنتهي بـ: «أنتَ من أشعر خلق اللهِ ما لم تتكلَّم!».
الأمر ذاته مع قامة من قامات النحو العربي، وهو عمرو بن عثمان بن قنبر، المعروف بـ«سيبويه» فقد كانت للأخير أيضا، حبْسة في لسانه، إلى الدرجة التي يورد فيها صاحب «وفيات الأعيان» هذه الحادثة عن «سيبويه» من مصادر ذكرها في سياقها: «.. وقد سمعته يتكلّم ويناظر في النحو وكانت في لسانه حبْسة، ونظرتُ في كتابه فرأيتُ علْمه أبلغ من لسانه!».
أمّا في العصر الحديث، فقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي يلجأ إلى شعراء لقراءة شعره بديلاً عنه. وقال الشاعر المصري عبد المنعم رمضان في مقال بعنوان «الشاعر والجمهور والسلطة» نشر في صحيفة «الأهرام» بتاريخ 21 نوفمبر 2011، إن «أحمد شوقي كان يتلعثم مثل غريق، فلجأ إلى شعراء يقرأون شعره نيابة عنه، آخرهم كان كامل الشناوي».
الإلقاء الشعري لو صحّ وكان معياراً نقدياً يُعتدّ به، لأُطيح، أولاً، بأبي تمّام الذي رثاه الحسن بن وهب بقوله: «فُجِع القريضُ بخاتم الشعراءِ، وغدير روضتها حبيب الطائي». ومثله، لكان أُطيح بأمير الشعراء العرب أحمد شوقي الذي يكفيه لقبه دلالة على مكانته الشعرية الرفيعة.
إلا أن عدم دخول الإلقاء الشعري على المعايير النقدية، لا يعني خلوّ الأخيرة من ضرورات النطق واللفظ. فللفظ في الذائقة العربية دور حاسمٌ في ترك الأثر الأدبي عند المتلقي، وهو الأمر الذي كان يعاني منه شاعر كبير آخر هو أبو نواس، الذي أدرك أن رقة ألفاظه أبعدت عنه جمهوراً غفيرا لجأ لغيره. فيقول عن ذلك: «لو كان كلُّ شِعري يملأ الفَم لما تقدَّم عليَّ أحدٌ». وقصد بـ«يملأ الفم» الألفاظ التي تحدِث وقعاً فريدا عند المتلقي، وهو الأمر الذي لم يكن يتحقق له في عموم شعره.
ويشار إلى أن ارتباط الشعرية العربية بالسَّمع، لم يحدّد معيارية للتصنيف الأدبي. فالمصنّفون العرب ومؤلفو التراجم، رسموا قصائد الشعراء رسْماً بالحرف. ثم خُلّدت آثارهم الأدبية مرسومةً لا ملفوظة. مما جعل الأحكام الأدبية مرتبطة، حصريا، بالمكتوب، لا الملفوظ. إلا أن الفترة التي سبقت تدوين الشعر العربي بمصنفات وتراجم، رجّحت كفة الملفوظ كونها كانت تعتمد على الرواة المشهود لهم بالحفظ والثقة. فرواة الشعر العربي، ومن صنعتهم هذه، كانوا ينقلونه نقلاً بالنطق، وبعضهم كان يتزيّد بالنقل من عنده إرضاء لحاكم أو جلباً لفوائد يغتنمها. وقد تطور الأمر، بسبب ذلك وسواه، إلى حصول ظاهرة «النَّحل» في الشعر العربي. وهي مسألة بدأت قبل تدوين المصنفات والتراجم، إلا أنها تسرّبت إليها، ولا يزال الجدل بشأنها قائماً وسيستمر طويلاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى