الشــرنقــة

> ريـم وليـد

>  هذه الحياة دأبت على أن تكون مؤلمة، وأنا تجرّعت من الحزن ما يجعلني لا أجرؤ على نكران عشرتهِ.
عندما كنت أسألها لم كل هذا الحب الذي تحبينني إياه!، كانت تجيبني: (لأنني أنظر إليك من خلالك).

الآن عندما أتذكر كلامها هذا أتساءل «أنا المتغمد في حبها كيف من دونها سأحيا؟!»..
 كان لتهاني وتبريكات الأقارب والأصدقاء وقع ثقيل على روحي، لكن ألمها لم يكن ألبتة بقدر ثقل الألم الذي أشعر به حين أراها تقابل المهنئين بابتسامتها الساحرة، وتفاؤلها الدائم، وهي تداري عنهم حقيقة عجزي، هذا العجز الذي أصبحت من جرائه يدركني النهار وأنا ما زلت لم أنم، فأغادر فورًا سريرنا التعيس لأقصد عملي قبل أن تلحظ انتفاخ عينيّ و احمرارهما، وأروح أندب بعيدًا عنها عجزي الذي أردى بي جسداً متخشباً، يختلق الشجار معها لا لخطأ اقترفَتهُ بل لأغطي عيبي، وضياع عمرها معي.

في مساء اليوم الثالث من زواجنا، أقبلت عليها بعد زيارتي للطبيب، ودمعتان استقرتا في مقلتيّ، كانتا أشد كِبرًا مني، قلت لها: «من الأفضل أن ننفصل». ابتسمتْ بانكسار خاشع، مدركة نواياي، وحقيقة ما يكتنفه خلدي، إذ كانت أكثر معرفة بي مني، حيث لم يكن في طلب الفراق إلا حقيقة الهروب مني قبلها.
نثرتُ تنهيدة مهجنة بالصبر والقنوط وقلت بصوت أخفض من أن تسمعه: «لا أتعس من محنتي هذه».

 ابتسمتْ مرة أخرى، وقد تصلبت دمعة في منحدر أنفها، ثم قالت: «ولا عدمني الله نفَسُكَ هذا».
كانت مسافة خطوة واحدة تبعدنا عن بعضنا، اقتربتُ منها، وضعتُ كفيها فوق كفيّ، ثم قبّلتهما جزاء مستبقًا قبل تلبيتها طلبي ورجوتها قائلًا: «اعتقيني منك، ارحمي عزيز زوج ذلَّ». عندها ارتمت مندفعة فوق صدري باكية، كأنما عصفور أطلق سراحه لكنه معمي عن هذه الحرية الموحشة ولم يألفها قط، فأصطدم بأول جذع أمامه، وهامت تذرف دموعها بغزارة وراح نشيج بكائها يحرك ستائر غرفتنا التي انتُقِـيـت بحب وتطلّع وأخذت تقسم: والله لن يغدو قسمي هباء، إني عاهدت الله أن أشاركك في السراء والضراء وإن كنت ترى في أمري هذا عصيانًا فأنا راضية بذنبي والله حسبنا وهو يفعل ما يشاء ..لا تتركني.

كان خوفها مخيفاً ومربكا، وكأن الموت يركض من خلفها ويلتهم باقترابه أنفاسها، ولولا هذا الفزع الذي تربع أفقي كأب تستنجده طفلته التي توشك أن تهوي من مرتغع بعيد لمَا عرضتها لهذا الحيز الضيق الذي كاد يطفئها على يدي قبل أن تخطو إليه خطواتها الأولى، ولماَ غفلتُ للحظة عن أنيني الذي لا يرفّ له رمش، لذا ما كان لي إلا أن أنفث عنها هذا الغبار الحزين الذي تسببته، فقبولها وصبرها على رجل عاجز محبط لا يعلم بشعوره إلا رجل مثلي، كان من الحتمية بحيث أخضعني أيضًا على تحملي وتقبلي لحقيقة سوداويتي الكالحة ورغم المرات المُرة التي كنت أسأم بها نفسي والحسرات التي قلبتني من حال ضوضاء مقيتة إلى حال أخرى لا تختلف عنها، كانت مؤشرات حبها لي ترحلني ملاكًا ضعيفًا أثخنته كل الأعشاب الطبيعية والتجارب الطبية عوضًا عن فكرة الانتحار التي اعتادت طرقاتها جمجمة رأسي طيلة هذه المدة القصيرة والسرمدية الحداد.

في الأربعة عشرة يوما التي سلفت على زواجنا كانت هي القبلة إذا تحدثت والعناق إذا تدلت من عينها دمعة والحياة إذا هتفت باسمي.. كانت تهتف به كثيرًا، إنه أكثر شيئًا أسمعتني إياه.. لا عجب في أن هيامها كان أجمل شعور على الإطلاق، إذ كان تعاملها معي كرجل لا طفل يسحق عجزي المخزي ويحييه برهة من الوقت، وكنت بانكساري المفلوق في وجهي مغفلاً عن سرطان رحمها المدير لي ظهره، إذ حرصت على تلثيمه بما يكفي لإخفاء كل شعرة منه.

مازلت حتى اللحظة أجهل السبب الحقيقي إلى لجوئها لتلك الآلية المعقدة، لقد كانت صغيرة بما يكفي حتى تتحمل فناءها المنتظر وتزيدني عليه، إنها كانت تكبر وتكبر بالتهامها آلامي، دبيب إحباطي، رتابة ناري، ثباتي المثنتين ركبتاي فيه،  ومزاجيتي التي حفيت بدهشتها، إلى أن غلفتني بغشاء حبها الحرير لتحميني من كل ما يؤذيني، وكنت أنا على المستوى الأول أحد العوامل الذي أؤذيني بها، لكنها سرعان ما تمزقت لتخرجني كائنا يُرضعه الحزن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى