الأموات يضحكون

> عبدالله قيسان

>
​الحدائق من حولهم مخضرة ومثمرة.. الشجر مثقل بالفواكه والأعناب.. والأنهار تجري رقراقة حتى تتوارى في الأفق البعيد وسط اخضرار لا متناه، وأسراب الطيور الملونة تحلق في السماء الصافية والنسمات الرقيقة تلعب بطرحات بنات الحور، وهنّ يسعينَ بين الأرائك المصفوفة وأمامها ما لـذّ وطاب من الطعام والشراب.. نتخيـّـلهم يتبادلون الحديث وأخبار أحوالنا ضاحكين ساخرين و(هم في خير مستقراً، وأحسن مقيلاً):

ـ لو حافظوا على.. هههها (وتفاجئه نوبة ضحك طويلة)
ـ على ما توصلنا إليه (أكمل رفيق دربه وهو يقضم تفاحة)
ـ  على الأقل! (أحد الشهداء وكان يكضم ضحكة قوية)
نحسُ نحن ـ بقايا التلاميذ ـ بالخزي والعار حين تمر علينا تلك الأطياف العبقرية في لحظات التأمّـل والمقارنة، فنتألـّم ونبكي، وهم يضحكون.. نحن نتعس وهم يسعدون، نحن نضيع وهم يخلدون.. الأطياف العملاقة التي تتراءى أمامنا مع القيلولة، وليالي السمر هم قادة ومفكرون عظماء.. رؤوساء ووزراء.. شهداء ومفقودون في معارك الشرف.. متواضعون شرفاء أصحاب آراء مواقف وأخلاق تحكم تصرفاتهم، “يمشون على الأرض هوناً * وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما”.

لم يمنوا علينا بتضحياتهم وإنجازاتهم الكبيرة، أولئك الراحلون في دروب النصر والتضحية والخلود.. وخيـّـم الصمت على الجميع، وكنا متكين على الدكة، لتنشط الذاكرة فإذا بهم يطلون من وراء الأفق مستغربين، وكأنهم رأوا القمامة تملأ شوارع العاصمة، والفقراء يبعثرونها بحثاً عما يسد الرمق، وعربات الحمير مصفوفة في الشوارع محملة (بجراكن) المياه الفارغة تبحث عن شربة ماء في عزّ الصيف، وكوكبة من النساء راجعات من الاحتطاب في ضواحي المدينة المنكوبة ونعيق الغربان يمزق الصمت.. والناس لا تدري إلى أين!! حائرة تائهة تصارع الغلاء والفقر والمرض:

ـ ياه ! دول عايزين مائة سنة (قال رجل أسمر ذو ملامح عربية أصيلة)
ـ حتى يستعيدوا الطريق (أكمل أحد الشهداء)

ـ هرولوا إلى الخلف ( قال رجل فقـدَ في الحرب)
ـ على فكرة.. من الأموات.. أحنا ولا هم ؟! (وأضاف بقوة)
 ويضحكون بملء الفم، حتى أفقنا من غيبوبة خاطفة.. عززنا المداكي، لنستمر في المضغ، ونطلق الآهات، ونتفنن في شرح الواقع مع قرحة القات.. وأدرنا حديثاً لنداري فشلنا وهزيمتنا:

ـ العيد الصغير اكتسيت بعشرة ألف (ذا الحاذق)
ـ ذا العيد بعشرين ويالله (جاك المخريط)

ـ ما حصلنا العشرة يا عشرين (رد أحد الغلابى بوجه مقلوب)
ـ خليك من الكماليات كم الدقيق؟ كم الكيلو السمك؟

عسى الله كم الراتب؟! وينه الراتب.. ما جاء؟! وبهت الجميع، ليجدوا أنفسهم في حيرة مع هذا الوضع المخيف مع مستقبل مجهول فحياة أسرهم وأطفالهم في خطر في زمن المفارقات العجيبة.. النهب بالمليارات والناس تأكل من الزبالات والهرج بالمكرفون والقتل كل يوم ورعاة الشاة يتطاولون...  لقد قامت القيامة وهم لايعلمون:
ـ هههها.. هههها (وتتعالى الضحكات)
مع إطلالة الطلعات الشجاعة من جديد لنفيق على السخرية وضحكاتهم العالية تأتي من وراء السنين تسخر من ملايين المتكين في هذا الزمن اللعين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى