الحروب السرية بين المثقفين

> أحمد القصوار

>
يضفي الحس المشترك على «قبيلة المثقفين» هالة من الوقار والتنزيه عن موبقات الحياة وتفاصيل الطبائع الشريرة عموم الناس. فالمثقف هو رجل يتعالى عن الصغائر ويفكر في كبريات القضايا، ويشغل ذاته بمصير الأمة والوطن.. ويبحث في الأفكار لا في أمور الناس الصغيرة.. وهو لا يعيش فوق الأرض، بل في عالم المعنى والفكر والانشغال بما لا يفقه فيه العامة.

غير أن هذا التمثيل السائد سرعان ما يسقط ويتلاشى أمام الواقع الفعلي لهذه الفئة الزئبقية التي وإن اكتسبت رأسمالا رمزيا جعلها تشيد حقلا خاصا بها، فإنها تعيش حروبا طاحنة داخلية لا يأتي المعنى والفكرة والقضية إلا في مؤخرة قوائم نزاعاتها، إن لم تكن قد حذفت نهائيا منها، وحلت محلها المصالح الصغيرة والمنافع العينية والمادية التي تبتدأ بدعوة لحضور لقاء أو إلقاء كلمة، وتنتهي بالشيكات والسفريات والترشيحات للمناصب والولائم والهدايا وتوقيعات كتب... إلخ.

إن المضحك المبكي هو نهاية الصراع حول الفكرة؛ نهاية الجدالات الثقافية حول القضايا المطروحة أو التي ينبغي طرحها من طرف هذه الفئة؛ نهاية الريادة والطليعة واستشراف الآفاق ودق نواقيس الأخطار… مقابل الغمس والرفس والغوص في أعماق المنافع الصغيرة الضيقة التي صارت معيارا أساسيا للتموقع واتخاذ المواقف مع أو ضد… وتضييع الوقت والجهد في نزاعات فارغة (لكنها ممتلئة ماديا ونفعيا طبعا) لا تضيف شيئا لما يشكل أساس وظيفة المثقفين: النقد الجذري والانتماء العميق للفكرة والقضية من دون أن يخشوا لومة لائم.

لقد أحدثت التحولات الكبرى التي شهدها العالم على جميع المستويات صدمة كبرى لدى فئة كبيرة من هؤلاء المثقفين الذين وجدوا أنفسهم «خارج التغطية» جراء تسارع الأحداث والمستجدات وسطوة العولمة الوسائط الرقمية وانهيار ثنائية اليمين واليسار وتصاعد أنواع المحافظة والتشبت بالهويات المغلقة سواء في بعدها العرقي او الديني. وعوض استنهاض الهمم ومحاولة عادة رسم معالم هوية جديدة للمثقف ووظيفته، صارت فئة من مثقفي العالمين العربي والإسلامي تخطب ود السلطة وتستلذ بملذاتها، واختارت فئة أخرى أداء مهامها الرسمية الروتينية بعيدا عن الأضواء وصداع الرأس، فيما ظلت فئة قليلة تتشبت بأمل طفيف عبر «النضال الرقمي» في شبكات التواصل الاجتماعي أو طرح مبادرات فردية أو جماعية لإرجاع الروح إلى مناخ الستسنيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم.

غير أن ما طغى في الكثير من الحالات، ولا سيما بعد ما سمي بالربيع العربي، هو شن حروب مباشرة أو بالوكالة بين أفراد أو جماعات من المثقفين، تكون في الغالب حول غنائم ومصالح نفعية. وطغت النزعة «الشللية» الضيقة والاعتماد المتبادل بين المثقفين، من خلال شعار «عطيني نعطيك» أو «انصر الكاتب أو الناقد أو الباحث ظالما أو مظلوما»، مع دفع المثقف الذي يغرد خارج السرب إلى دخول «بيت الطاعة» واختيار شلته وجماعته الكفيلة بالدود عنه في السراء والضراء، وإلا أصبح طريدة سهلة وعنصرا معزولا لا يلتفت له أحد.

كما برزت حرب أخرى بين المثقفين «العلمانيين» أو «الحداثيين» والمثقفين «المحافظين» أو «الإسلاميين»، مما حول الصراع السياسي والايديولوجي إلى صراع ثقافي هوياتي، كما شهدنا ونشهد في بعض البلدان كمصر وتونس والمغرب. وصار لكل فريق منابره وأحزابه ولوبياته، بل إن مصطلح «الدولة العميقة» الذي يتداول هنا وهناك يشكل المثقفون إياهم جزءا منها وأداتها الإيدولوجية وسلاحها «الناعم» الفتاك، خاصة في وسائل الإعلام الرسمية أو «المستقلة».

واللافت للنظر أن هذا الصراع المنغمس في قضايا سياسية وأمنية، جعل بعض المنابر تأكل الأخضر واليابس ولا تقوم في حربها على مبادئ واضحة تدفع بتطور المجتمع وتحديثه، وإنما تخدم أجندات سياسية بشكل سافر ومفضوح، لدرجة أضحت معه علاقة السياسي بالمثقف علاقة تبعية، تلحق المثقف بالأمني، أو المثقف بالدعوة الدينية، حتى صرنا نقرأ ونسمع ونشاهد مثقفين ناطقين بالسنة أجهزة الأمن، أو باسم فقهاء أو أصحاب الدعوة والإرشاد، أكثر مما ينطقون باسمهم أو باسم مبادئهم وقيمهم ووظيفتهم المجتمعية. وتلك قصة أخرى.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى