الغرابة وشيطنة المرأة في قصة ملاذ الروح

> عوض القيسي

>
تدخل هذه القصة في جنس أدب الغرابة fantastic بما حوته من حديث عن مخلوقات غيبية وحوادث خارقة للعادة. وصاحب القصة محمد صالح يبرع في نسج قصص الغرابة التي تأتي أحداثها على خلاف المألوف. وقد جعل الغرابة مطية ذلولا وحيلة لطيفة وغير مباشرة لإيصال المغزى إلى لب المتلقي. 

اختار الكاتب لقصته عنوانا لا يحدد الدلالة بل يرسل موجات دلالية مراوغة تتكسر حالما يوشك ذهن المتلقي أن يركبها، ويظل القارئ الفطن حائرا في أول قراءة، فلا يظفر بالمغزى إلا بعد كد الفكر. ولا ننسى هنا أن نقول إن هذا العنوان كان لرواية لكاتبة خليجية اسمها زين العزام.

قد يقع في ذهن المتلقي أن "ملاذ الروح" هو ما تأنس له الروح وتلوذ به طالبةً السُكنى، لكن الحقيقة أن استعمال هذه الدال جاء على طريقة محمد صالح المثلى التي تخبئ مفارقات في ثنايا نصوصه لا تلبث أن تظهر في الختام، فتسخر من المتلقي الذي ظلت تجذبه وتوهمه بدلالة جاءت الخاتمة بخلافها كأنها مقلب. كانت عادة محمد أن يصرح بتلك المفارقات في ختام نصه كما في حديثه في إحدى نثائره عن حبيبته التي أصابته بالجنون، ليتضح أنه يقصد بها الحكومة وغيرها من المتحكمين، وقد يجعل المعنى شفيفا يتضح مراده بعد قراءة فقرة أو فقرتين. لكنه هذه المرة أوغل في الترميز، فعمّى مقصده عن قرائه الذين شدهم بحيلة الغرابة، فأوقد بين جوانحهم الشوق باستثارة مشاعر القلق والخوف الكامنة في الوعي، مما وقر في الذهن من حكايات الطفولة ومن أفلام الرعب في السينما. ملاذ الروح في هذه القصة الرمزية هو الموت، هو أحد تجليات بلاغة السخرية irony لدى محمد صالح. والمغزى المراد أن جمال المرأة وغوايتها الجميلة هي الطُعم الذي يغري الرجل بالذهاب إلى الموت. ويعضد هذا الرأي أمران: أولهما: وصف الراوي لطيف المرأة الذي كان يواصله في المنام فيسيقه من متع الوصال ما يسكر، ليجذبه للخروج في تلك الليلة التي سمع فيها الراوي أصواتا غريبة قادته لإزاحة الأستار عن أحد الأسرار في قريته، تلك المرأة التي تشبه بعض شخصيات أفلام الرعب، امرأة ممشوقة القوام بوجه تخضبه الدماء، وتردد تمتمات بهيمة، وتلبس ثوبا أبيض كالكفن ملطخا بدماء من أغوتهم واغتالتهم من الرجال، وصور الرجال الذين اغتالتهم مرصوصة بانتظام، وقد انغرز سكين في  موضع القلب الذي مازال يثعب دما. وثاني الأمرين مناجاة الراوي لنزار قباني التي ختمها بقوله: "أنظر إليها كيف تفتك بالرجال"، فهذا الكلام وما سبقه ينطوي على تبكيت لشاعر المرأة، حتى لكأن أشعاره كتابهن المقدس الذي يستقين منه تعاليمهن التي أراد بها تحريرهن فأسأن تأويلها واستعملنها لاستحلال دماء الرجال. والمشهد  كما نرى مشهد طقسي تنصب العابدة فيه صورة لإلهها، وترتل من كتابه المقدس آيات تؤولها بممارسة القتل للرجال، وتمارس القتل بصورة سحرية بطعن الصور في القلب فتصيب صاحبها على البعد. وهي هنا تذكر بسحر الدمية voodoo،  الذي يقع بصنع أحدهم دمية لشخص يرغب في إيذائه أو قتله، ثم يقرأ عليها بعض العبارات السحرية، ثم يغرز فيها الإبر، وحيثما تُغرز الإبرة يصاب ما يماثله من جسد المستهدف بالسحر. لكن يبقى في القصة لغز عصي على التفسير، هو سماح "ملاذ الروح" لهذه الفريسة بالنجاة دون سائر الفرائس الأخرى، فليس هناك أي مسوغ منطقي يفسر هذا الحدث إلا رغبة الكاتب في الإبقاء على البطل ليكمل القصة. أظن أن المعالجة السردية قد شابها وهن في هذه النقطة من خط السرد، ولعل الأحرى بالكاتب لو ساق لنا أحداثا أكثر غرابة وإقناعا في تخليص بطله من بين يدي الجنية.

في القصة ثيمة أخرى تتجلى كثيرا في كتابات محمد صالح، هي إنكار عالم الغيب بما فيه من مخلوقات، لكنه في هذه القصة قد خفف نبرة الإنكار المطلق الذي عرفناه في سالف كتاباته، والذي كان يسوقه بصورة تقريرية فجة. لقد اكتسى إنكاره في "ملاذ الروح" حلة فنية جميلة، عبر عنها الكاتب بصراع يجري في ذهن الراوي، يوازن فيه بين التصديق بما سمعه من الناس ورأته عيناه ووعته أذناه وبين التكذيب بما يخالف نزعته الفكرية المادية التي ترفض الغيبيات. وقد عبر عن ذلك الصراع جليا في خاتمة القصة بقوله: "وأنا إلى الآن أخفي ما رأيت حتى أظل متمسكا بقناعتي أن الجن لا وجود لها إلا في عقولنا، متذرعا بأن عقلي هو الذي انزاح عن اتزانه فصنع هذا الوهم".

ونعرج على أسلوب الكاتب، فله أسلوب يَسِم قصصه بميسم فكري تأملي مباشر وبسخرية صارخة. تعد هذه القصة نقلة نوعية في أسلوب محمد صالح، ارتقى فيها من الكتابة البسيطة العارية الأفكار إلى الكتابة "المشفرة" أو الرمزية، والفكرة ما عادت بسيطة ومباشرة يطغى بها صوت المؤلف، فيظهر على لسان أبطاله، بل صار البطل يعبر عن أصوات متعددة - إن صح فهمنا لمبدأ باختين - وصارت السخرية الصارخة أكثر صمتا وعمقا، فلا يكاد المتلقي يشعر بها إلا حين يرجع البصر كرتين. ثم هناك شخوصه وفضاءه المكاني الذينِ يغلب على الكاتب انتزاعهما من البيئة المحيطة به فتأتي جذابة بصدقها، وهو أمر قلما يحسنه ناشئة الكتاب الذين يقعون في شرك التقليد لبيئات غيرهم، وقد وقع شيء بسيط من ذلك في هذه القصة في تصوير المرأة أو الجنية، ولعل لجنس الغرابة من حق الاقتباس ما ليس لغيره.

وما يزال أسلوب الكاتب - برغم ما حققه من تميز فكري - يحتاج لكثير من الجهد في تحقيق التميز في بنائه اللغوي، فلم نرَ فيما كتبه الكاتب أي أسلوب لغوي بديع يتفرد به عن سواه وعن أسلوب الصحافة الركيك الذي طغى على كل من يكتب ووسمهم بميسمه.

هناك خطأ نحوي لعله ظهر لاستعجال الكاتب بالنشر فلم يبيض بعد التسويد: "ترتدي ثوبا أبيض مرشوش ببقع".
شاب القصة ضعف بسيط في الحبكة حين ذكر الكاتب على لسان الراوي مروره بجانب بيت "ملاذ الروح"  الواقع فوق رابية منعزلة نهارا، إيراده لهذا الوصف بعد ذكره لمذهبه الفكري الذي لا يؤمن بالغيبيات، جاء نابيا عن السياق، ولم يربطه ربطا سببيا بباقي أجزاء الحبكة.

وهناك إخفاق آخر في قول الكاتب على لسان الراوي: "رأيت غرفة تفوح من داخلها رائحة، تقف في وسطها أنثى ترتدي ثوبا أبيضا...". ففي هذه الجمل أورد الكاتب فعلا يدل على الشم بعد فعل الرؤية مباشرة، كأن الشم ناتج عن الرؤية، والأصوب لو أنه قال: حين فتحت النافذة وأزحت الستار داهمتني رائحة منتنة، وأصابني رعب لا  يوصف لما رأيت! لقد رأيت امرأة ترتدي ثوبا أبيض...". لو سيقت الأحداث على هذه الشاكلة لكان الترتيب المنطقي للأحداث سليما والحبكة أمتن والسرد أكثر سلاسة في إيصال المعنى.

لقد أبلى محمد بلاء حسنا في هذه القصة، واستطاع أن يخرج لنا نصا غريبا ومشوقا، وهذا إنجاز لا شك لم يكن وليد اللحظة، بل جاء بعد طول نظر ودربة مضنية، وهو بهذا النص إبان عن قدرة على التطور في الكتابة وإخراج ما هو أجود. تمنياتي له بمزيد من التقدم ولناشئة الكتاب أن يحذوا حذوه في محاولة التجويد والارتقاء.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى