سكان الحديدة.. العودة اضطرارا إلى دائرة الموت

> تقرير/ خاص

>  تعزيزات عسكرية هي الأكبر من نوعها تصل تخوم مدينة الحديدة.. تجدد الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة والخفيفة.. إطلاق الحوثي للقذائف بصورة مكثَّفة على الأحياء المكتظة بالسكان.
هذه الأخبار وغيرها عن مدينة الحديدة باتت تتصدر عناوين وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة المحلية والدولية، منذ اندلاع الحرب في المدينة لِما يقارب أربع سنين بين قوات الشرعية وقوات الحوثي الانقلابية.

ليجبر على إثر هذه الأحداث والتطورات العسكرية الميدانية سكان المحافظة على التشرد والنزوح لأكثر من منطقة ومحافظة في البلاد بحثاً عن أمن واستقرار، خوفاً من تكرار سيناريو تعز التي أضحت أرضها تتزاحم بقبور الأبرياء من المدنيين، نتيجة احتراب الأطراف المتناحرة فيها.

أكثر من 120 ألف نازح
ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، فقد فاق عدد النازحين من الحديدة الـ121 ألف شخص إلى مناطق أكثر أمنا منها صنعاء والمحويت وعدن وغيرها من المدن.
وماتزال موجة النزوح الإجبارية جراء نيران الحرب مستمرة، تاركين خلفهم منازلهم وأرزاقهم وكل ما يمتلكون عرضة لأيادي النهب والفساد.


وتجاوز تعداد الأسر النازحة من المحافظة 17 ألفا و350 أسرة من شوارع وحارات المدينة والتي باتت تلفها الوحشة، ولا صوت فيها يعلو على أزيز الرصاص ودوي المدافع.
واضطر الكثير من أرباب الأسر على البقاء في منازلهم خوفاً من تعرضها للنهب والسرقة، لاسيما أن العديد منهم لم يتمكنوا من اصطحاب ممتلكاتهم المنزلية بسبب الحفريات التي قام بها الحوثيون في مخارج المدينة تحسبًا لدخول الجيش، فضلاً عن نصبهم للحواجز الترابية والحديدية.

نزوح إجباري
عائلة أبو هاشم إحدى العائلات التي أجبرتها الحرب على النزوح إلى قريتها بإحدى مديريات محافظة تعز تاركة منزلها بكل محتوياته.. غادرت المدينة بعين دامعة وقلب مكسور مُدركة تمامًا ماذا بعد النزوح.

تقول أم هاشم وهي تسرد قصتها بمرارة لـ«الأيام»: «تركتُ بيتي وكل شيء فيه، تركت شقى العمر الذي جمعته طيلة عشرين عاما.. حرمت نفسي من أشياء كثيرة لأجل اصطحاب الضرورية منها وإلى الآن لم أستطع إخراج أي منها بسبب استمرار الحرب».


وتضيف: «خرجنا بأنفسنا واستودعنا الله كل ما نملكه، ومثلنا فعل سكان الحديدة الآخرون».

سعدية ابنة الأسرة التي لطالما حلمت بالدراسة بكلية الإعلام أجبرتها الحرب على الفرار مع عائلتها وترك ما تبقى من حلمها، فجامعة الحديدة بات يعتلي أسطحها ما يقارب عشرين قناصًا، تحسبًا لقدوم القوات المشتركة التي قد تقتحم المدينة في لحظة، فضلاً عن انتشار العديد من الدبابات في باحتها.

تقول سعدية لـ «الأيام»: «كنتُ مستعدة ومتحمسة للعام الدراسي الجديد ولكن الحرب حرمتنا منه، ولا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل».

الهروب من الموت إلى الموت
وليس من السهل أن تُقرر أسرة النزوح في ظل وصول الدبة البنزين إلى عشرين ألفًا، والدولار الواحد إلى الـ800 ريال نتيجة التدهور العملة الوطنية بشكل جنوني.
ومن سبق لهم النزوح أصبح شبح الفقر والجوع والمرض والضياع والموت يترصد لهم في أماكن نزوحهم المتعددة.

الطفلة هند.. قصة نزوح من وجع آخر، عاشت في الحديدة تقاسم مع أطفال المدينة مرارة الجوع والحرمان، وحين بدأت الحرب فيها قررت أسرتها كغيرها الفرار من الموت قتلا لتلقى الموت جوعاً في مدينة عدن التي كانت تظن أنها ملاذا أمنا لها من حرب قد تحرق أجسادهم أو تنثرها أشلاء كما فعلت في مدينة تعز.


ليضحي الحرب والجوع شبحين يحاصران اليمني في الريف والحضر، فإن نجا المرء من الحرب يلتقفه الجوع والتشرد وقد يكون الموت أرحم له من العيش في خيمة والتضور جوعًا ومرضًا وضياعا.

نزح الكثير من سكان الحديدة خلال الفترات الماضية إلى صنعاء، عانوا خلالها الأمرين، إذ وصل سعر الباص إلى ثمانين ألفا غير المصاريف الأخرى.. ولكثرتهم اكتظت بهم مدرسة أبو بكر الصديق، كما ارتفعت قيمة الإيجارات بشكل جنوني.

قرار العودة المُر
«الموت بالقذائف أرحم من الموت جوعًا» بهذه العبارة بدأت عبير حديثها لـ «الأيام»، وتضيف: «نزحت إلى صنعاء بمعية وزجي وابنتي فطوم، بعد أن خلت حارتنا من السكان».
وكانت عبير رافضة النزوح بشدة، راضية بما كتبه الله لها وللمدينة غير أنها وجدت نفسها وحيدة في الحارة وأرعبها دوي المدافع وأصوات قصف الطيران.

وتقول: «نزحت إلى صنعاء فوجدت الحرب أرحم من أن أرى طفلتي فطوم تموت جوعًا.. وبعد أن وجدت الحياة صعبة في صنعاء قررت العودة والاستسلام للحرب، خصوصًا أن الحديدة اقتصادية نوعًا ما، والمواصلات فيها سهلة وأفضل بكثير من المدن الأخرى، كون سكان المحافظة يعيشون ببساطة، بعكس ما وجدناه في صنعاء أو غيرنا في المدن الأخرى التي تم النزوح إليها.. فالسكن فيها باهظ وهناك صعوبة بالحصول عليه، بل إنه معقد للغاية نتيجة لموجات النزوح الكبيرة من الحديدة هرباً من نيران الحرب وفوهات المدافع التي وزعت بين الأحياء السكنية والأشجار، معرضة إياها لضربات طيران التحالف العربي.. وما أمرُّ أن يُشرد المرء من الحرب بحثاً عن أمن واستقرار له والأفراد أسرته فيجد نفسه في جحيم وضياع وموت وتجويع، محروماً من الدعم الإغاثي الذي تقدمه المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن نتيجة لترصد جماعة الحوثي لها في مرفأ ميناء المحافظة ونهبها، تاركة بذلك المواطن الذي أتت من أجله يتضور جوعا».


وزادت عمليات النهب هذه من معاناة النازحين على الرغم من أن هناك برامج تعمل عليها المنظمات جاهدة لحل مشاكلهم وتوفير ما يلزمهم من متطلبات النزوح كالفرش والبطانيات والسلل الغذائية والأدوية وغيرها.

وكانت في ذات السياق قد اظهرت وسائل إعلامية رسالة مسربة لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة وموجهة لقادة الحوثيين تظهر حجم الانتهاكات الأخيرة التي قامت بها قوت الحوثي الانقلابية في محافظة الحديدة.
وأوضحت الرسالة قيام الحوثيين باستغلال منشآت البرنامج لأغراض عسكرية وهو ما يُعد خرقًا للقانون الدولي الإنساني.

تشرد ومعاناة
عائلة العليفي إحدى العائلات النازحة إلى مدينة عدن.. كانت تظن أن الهواء فيها ملون كما تغنى بها الشاعر اليمني الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان وغيره كثيرون، غير أنها لم تجده.

ووجدت هذه الأسرة قبل مغادرتها الحديدة مكرهة صعوبة في توفير 150 ألف ريال وهي تكاليف النقل، فاضطرت إلى بيع دراجة (موتر) كانت مصدر دخلهم الوحيد، بل باعت أسطوانة الغاز وبعض أغراضهم لأجل النجاة بأرواحهم، وما إن اكتمل المبلغ غادرت المدينة مسرعة إلا أن أفرادها وجدوا أنفسهم يموتون بشكل آخر في مخيمات النازحين في عدن بسلاح الجوع والضياع والفقر الشديد، وإهمال المنظمات والمؤسسات المتخصصة بخدمة النازحين.

ليقرروا بعد شهر من نزوحهم العودة غير أنهم باتوا يواجهون حياة أصعب نتيجة لبيع أشيائهم ومصدر رزقهم،
لتصبح الحرب والموت جوعًا هما الشبح المسيطر على أجواء المدينة التي لم تُعد عروسًا كما كانت.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى