الشفاهّية.. خطاب أم هُويّة

> شوقي عبد الأمير

> « الكلام مؤسس الإنسانيّة» يقول العالم الانتروبولوجي الفرنسي رولان كولان Roland Colin في مقال له حول «الشفاهية والكتابة» إنّ «الاسلام أكثر من أي دين آخر هو دين الكتابة.. لقد جاء بُرهانُه كتاباً… وهو دين محفوظ في قرآن / كتاب مقدس» .
أما المسيحيّة واليهوديّة من قبل فقد حَفِظَتْ تعاليمَها الشفاهيةَ في «كُتبٍ» (توراة وانجيل ) أُعّدت أوكتبتْ من بعد…

هذه المقدمة فقط للإشارة الى المعنى العميق لـ «الكتابة» في هويّة المجتمعات الإسلاميّة قاطبةً…
ان مفهوم «الشفاهّية» يعنـي أن التبادلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين الافراد تنتقل «شفاهاً» خاصة المعارف والآداب، وكما نعلم فان العرب كانت تعتمد هذا الاسلوب في نقل المعرفة والشعر عن طريق «الرواة» حتى القرن التاسع الميلادي (الثاني للهجرة) بالرغم من أن الكتابة كانت مُكتشفةً في سومر أربعةَ آلافٍ عام قبل الميلاد وأن الالفباء ابتُكِرتْ في فينيقيا على الساحل الشرقي للمتوسط في القرن الخامس قبل الميلاد..

يبدو من هذه المفارقة التأريخيّة أن الجزيرة العربيّة وسكانها بالرغم من قربها الجغرافي من المتوسط وبلاد الرافدين ظلّت بعيدةً عن هذا الاكتشاف الحضاري المهم في تطوير المعارف والحضارة..

عندما نرى مئات الآلاف من الرقائم الطينيّة التي وصلتنا من سومر وبابل وهي تحمل كل أنواع المعارف والشعر والكتب الدينية والعلاقات الاجتماعية والادارية منذ آلاف السنوات ولا نجدُ كتاباً في اللغة العربية إلّا في القرن التاسع الميلادي أي بعد أربعة آلاف عام من أكتشاف الكتابة والعمل بها، فان هذه الظاهرة التأريخيّة تستوقفنا واكثر من هذا تستجوبنا؛ ماذا يعني تأخر دخول الكتابة الى المجتمع العربي أربعيـنَ قرناً.؟ وهل هو مقصود أم ماذا؟
إن المراقب والدارس لسكان الجزيرة العربية التي تشكل الصحراء اكبر مساحة فيها، وكونها الحاضرة الاهم في حياة سكانها، لأن الجبال موجودة على الساحل الغربي من الجزيرة «جبال السراة» وهي ليست مأهولةً بسبب كونها ليست بـ «ذات زرع».. يدرك أن الطبيعة الصحراويّة هذه التـي لا تعرف الاستقرار ولا البناء قد أثّرت فعلاً وطبعت حياة سكانها الذين وجدوا في «الشفاهّية» النموذج الامثل للتداولات الاجتماعية والاقتصادية والأدبية كما هو واضح في التراث العربي والنقل الشفاهي الشائع عند العرب.

يضاف الى ذلك خصوصيّة اللغة العربية، هذه اللغة التي تمتاز بالغنائية الساحرة والايقاع الطاغي على تراكيبها وجملها فهي اللغة الوحيدة في العالم التي تزهو بالحركات والتنوين والإطلاق وهي صفات تمنح اللغة العربيّة قدرة إيقاعية تُسهل عملية الحفظ والنقل شفوياً..هذا كما يقدم الشعر العربي دليلاً إضافيا وذلك في تعدد وتعقيد البناء الموسيقي فيه إذ ليس إعتباطاً ولا محض صدفة أن الأوزان الشعرية في الشعر العالمي لا تتجاوز الثلاثة في حين يوجد في العربية 17 وزناً شعرياً صارت 18 بعد أن أضاف الاخفش لها وزناً..

إنها لغة «شفاهّية» إذن اكثر من أي لغة أخرى وهذا ماتؤكده قواعدُها وتراكيبُها، ومن هنا فان «الظاهرة المنبريّة» الشائعة في الخطاب العربي ليست بعيدة عن حال اللغة ذاتها وتأثيرها في العقلية والتفكير العربي وهو الامر الذي دفع البعض الى المبالغة والقول : «ان العرب ظاهرة صوتية».

أضف الى ذلك يجب أن نعلم إن «الشفاهيّة» ليست خطاباً وحسب إنها إسلوب حياة ذلك لأن التحرير في الكتابة يعنـي الفرديّة والشفاهيّة تعني الآخر.. كيف يحدث هذا؟
في التحرير يكون الشخص أمام الصفحة البيضاء وحدهُ يفكر ويكتب ما شاء… يمكنه أن يحذف ويُعّدل أو يمزق الصفحة إن اراد ..لا أحَد يشاركهُ أو يصغي إليه وهذه الممارسة تنعكس على طريقة التفكير والحياة.. أما في الخطاب الشفاهي فان الشخص يواجه آخر أو آخرين فهو ليس وحَده وبهذا لايملك نفس حرية الكاتب أمام الصفحة البيضاء فلا يستطيع أن يصحح أو يحذف وكل كلمة يقولها تحسبُ عليه… وهكذا فان الصفحة البيضاء هي الفردانية والشفاهّية هم الاخرون..

من هنا نفهم أن الشفاهية ليست خطاباً وحسب بل هي هويّة يمكن اعتبارها الملمح الأهم في العقلية العربية حتى يومنا هذا.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى