من نفاق الشعراء

> د. وليد قصاب

> نقَل لنا التراث الأدبيُ قصصًا ومواقف كثيرة عن نفاق بعض الشعراء، وعن كذبهم، وقلَّة وفائهم، وبُعدهم عن الصدق والحق فيما يقولون أو يفعلون.
وهذه الطائفة هي التي قال القرآن الكريم عنها: ﴿ وَالشعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 224 - 226]، وعليها انصبَّ التقريع والوعيد القرآني المخيف: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].
وهذه الطائفة مِن شعراء السفه والنِّفاق موجودة في كل زمان ومكان، وقد حفظ لنا التاريخ بعضًا من أقوالهم وأفعالهم.

رُوي أن الشاعر الأموي الشهير الفرزدقَ مدح الحجّاج في حياته، وتلقَّى هباتِه وعطاياه، ثم هَجاه بعد موته، فلاموهُ على ذلك لومًا شديدًا، فقال: «نكون مع العبد ما دام الله معه، فإنْ تخلَّى عنه تخلَّينا عنه».
كما رُوي أن أبا دلامة كان يمدح السفاح - أخا المنصور - ويُكثِر مِن مدحه، فلامه المنصور على ذلك، فقال أبو دلامة: «إني أرغبُ في الثمَن، فإنْ أَعطيتَ ما أعطى أخذتَ ما أخَذَ..».

ومن هذا القبيل ما يُروى عن سلْم الخاسر؛ حيث يحكي الراوي عنه قائلاً: «دخلتُ على سلم الخاسر، وإذا بين يديه أشعار يَرثي ببعضها أم جعفر، وببعضها جارية غير مُسمَّاة، وأقوامًا لم يموتوا، فسألته، فقال: تَحدُث الحوادث، فيُطالبوننا بأن نقول فيها، ويستعجلوننا، ولا يَقبلون منا أن نقول غير الجيد، فنعدُ لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلنا فيه قديمًا على أنه قيل في الوقت..».

وأخَذ النقاد على البحتري سوء العهد، وقلَّة الوفاء لمن كان يومًا متظاهرًا بمحبتهم، يَمدحُهم ويُثني عليهم، ثم انقلب عليهم عندما زال سلطانهم، أو أدبرت الدنيا عنهم.

ذكر أبو عبيدالله المرزباني في كتابه «الموشَّح» - من مآخذ النقاد على البحتري - أن البحتريَّ قد هجا نحوًا من أربعين رئيسًا ممَّن مدحه، منهم خليفتان، وهما المُنتصِر والمستعين، وساق بعدهما الوزراء ورؤساء القواد، ومن جرى مَجراهم من جِلة الكتاب والعمال ووجوه القضاة والكبراء بعد أن مدحهم، وأخذ جوائزهم، وحاله في ذلك تنبئ عن سوء العهد، وخبث الطوية..».

كما ذكر المرزباني من نفاق البُحتري، وهو «مما قبُح فيه، وعدل عن طريق الشعراء المحمودة؛ أني وجدته قد نقل نحوًا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفَّر حظه منهم عليه إلى مدح غيرهم، وأمات أسماء من مدحه أولاً، مع سعة ذرْعه بقول الشعر، واقتداره على التوسع فيه..».

وقال أحمد بن أبي طاهر عنه: «ما رأيت أقل وفاءً من البُحتريِّ ولا أسقط؛ رأيته قائمًا ينشد أحمد بن الخصيب مدحًا له فيه، فحلَف عليه ليجلسنَّ، ثم وصله واسترضى له المُنتصر - وكان غضبانَ عليه - ثم أوصل له مديحًا إليه، وأخذ منه مالاً فدفعه إليه، ثم نكَب المستعينُ أحمدَ بن الخصيب بعد فعله هذا بشهور، فلعهدي به قائمًا يُنشده:
ما الغيثُ يهمي صوبَ إسباله 
والليثُ يَحمي خِيسَ أشبالِه
كالمُستَعينِ المُستعانِ الذي
تمَّت لنا النُعمى بأفضالِه
وقال فيها في الطعن على ابن الخصيب، وإيغار صدر الخليفة عليه:
لابنِ الخصيبِ الويلُ كيف انبَرَى
بإفْكِه المُرْدِيْ وإبطالِه
كاد أمينَ الله في نفسِه
وفي مواليهِ وفي مالِه
ثم حرَّض المستعينَ على إهدار دمِه، وأخْذ ماله، فقال:
يا ناصرَ الدين انتصرْ موشِكًا 
من كائد الدِّينِ ومغتالِه
فهو حلالُ الدم والمالِ إنْ
نظرتَ في ظاهرِ أحوالِه
والرأيُ كل الرأي في قتلهِ
بالسيف واستصفاءِ أموالِه
وبعد أن أورد ابن أبي طاهر هذه المواقف عن سوء العهد عند البُحتريِّ، قال يَنتقد نفاقَه هذا، ويسخر منه، ويُهاجمه بشدة: «كان ابن العِلجة فقيهًا يفتي الخلفاءَ في قتل الناس، فَتَرَحَه الله..»
هذه صور لبعض شعراء النفاق والدجل في كل زمان ومكان، وهمُ المقصودون بالوعيد القرآني، وقد أنكر كثير من النقاد هذا السلوكَ القبيح مِن الشّعراء، مُعبِّرين بذلك عن وجه من وجوه الاتجاه الإسلامي والخلُقي في النقد العربي.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى