> د. منذر الحورات

هذا البلد المُبتلى بالحرب والفقر والغموض، يثير دوماً كّماً من الأسئلة أكثر بكثير مما يمكن الإفصاح عنه، ففي كل يوم تنقل الشاشات والوكالات إلى عيوننا وأسماعنا ما يضني القلب، ويطرح التساؤل المرّ، ما الذي يجري ومن الفاعل؟
وتخضع الإجابة دوماً لمصلحة المجيب، سواء الاقتصادية أو الإستراتيجية أو المذهبية، كلٍّ يتحدث عن حقيقة تخدم مصالحه وغاياته تلك.

ولكن مشاهدة الأطفال بأجسادهم الهزيلة، تخُرج كل الإجابات من دائرة التصديق، من المسؤول؟ هل هو التحالف، أم المجتمع الدولي، أم مليشيا الحوثي وإيران؟ وكما جرت العادة ان تُلحق المسؤولية عن الأمر بالتحالف العربي، ولكن ما صحة ذلك؟
بقى هذا التساؤل حائراً إلى أن قادتني الصدف للقاء مع المخرجة الأردنية، نسرين الصبيحي، مخرجة فيلم (وما جاء الفجر)، الذي يتحدث عن معاناة أطفال اليمن جّراء الحرب المجنونة، والتي عادت للتو من اليمن بعد أن أغراها نجاح التجربة الأولى، بإخراج فيلم جديد يتحدث عن المعاناة الإنسانية في (اسلم). أمطرتها بسيل من الأسئلة عليّ أن أشفي ما يجول في خاطري من التساؤل، وتنقلت من طريقة وصولها الشاقة والتي تطلبت أيام عديدة، ابتدأت من عمان أوصلتها إلى عدن، ومن هناك براً إلى صنعاء، وهي بحد ذاتها مغامرة أمنية في اتجاهين: الأول فيها توفير الأمن الشخصي لعبور الطريق وهذا كان ممكناً شراؤه، أما الآخر فكانت المعاناة من صعوبة الطريق، والتي تعرضت للإهمال طوال سنين الحرب بحيث أصبح السير فيها حرباً مضنية لأجل السلامة.

في النهاية وصلت صنعاء، بادرت بالسؤال كيف هو الحال هناك؟ الأمن، معيشة الناس، التعليم، العمل، المساعدات الإنسانية، وكل تلك، فكانت الإجابات الصادمة؟
فالأمن الذي تبدو عليه المدينة ما هو إلا حالة وهمية نجمت عن الخوف القابع في نفوس سكانها، سواء على حياتهم أو على مصادر رزقهم الشحيحة، بالإضافة للاعتقالات التعسفية التي أصبحت سلوكاً ممنهجاً لديهم، فقوة السلاح واحتكاره بيد المليشيات، والتي تمارس عمليات السطو والقتل بدون حسيب أو رقيب.
وبالنسبة للوظائف العامة، وما يجعل العاملين يستمرون في عملهم رغم عدم حصولهم على رواتبهم لمدة طويلة، فهي باختصار شديد بأنهم سوف يفقدوا في المستقبل أي فرصة للترقية في سلم العمل (والذي طبعاً يروج فيه أن الحالة الحوثية سوف تصبح فيه ظاهرة تتمدد لليمن كله) وأيضاً يهددون فيما لو لم يلتزموا بأداء واجبهم سوف يتم إحضار بدائل لهم من الحوثيين أنفسهم، وتلك طامة كبرى.

سألت متشككاً، وهذه الأمواج البشرية التي تخرج في كل حين مؤيدة للحوثيين وتهتف باسمهم وتلهج إلى السماء أن ينصر الحوثي ويهزم أعداءه، هل يعقل أنها تخرج لو لم تكن مقتنعةً ومؤمنة بهذه الجماعة؟
كانت الإجابة سهلة بقدر خبث السؤال، في اليمن إخراج الناس إلى الشارع أسهل بكثير من إخراجهم منه، فهنالك وسائل عديدة يمكن من خلالها جعلهم يتوجهون بحماس للانطلاق بمظاهرات حاشدة، (تتراوح بين قوة السلاح والإغراءات المالية، واستخدام العقائد والأيديولوجيات الحماسية)، الأمر الذي لا يجعل الخروج إلى الشارع مقياساً حقيقياً وصادقاً يعبر عن الموافقة لأفعال المليشيات، وأثناء الحديث حضرت إلى ذاكرتي المسيرات الحاشدة التي كانت تخرج تأييداً للرئيس السابق المرحوم على عبدالله صالح، والتي لم تسعفه حين جد الجد في الوقوف إلى جانبه والدفاع عنه.

لم أصل إلى حالة من اليقين بما أسمع ولكني استمررت في الاستفسار عن العديد من الأسئلة العالقة في مخيلتي، ما هذه المشاهد لتردي الوضع الصحي، والإنساني، أين المستشفيات؟! وأين المنظمات الدولية والمساعدات؟!
صُعقت حين سماعي أنها في جلّها مخصصة للإصابات الناتجة عن الحرب، طبعاً عدا عن النقص المزمن في المعدات والأدوية، لكن أين تذهب المساعدات الدولية من أغذية وأدوية؟ فالإجابة صدمة بلا حدود، فمحدثتي شاهدت وصورت تلك المساعدات تباع في السوق السوداء.

وحين سؤالها للدكتور شرين فاركي (نائب رئيس منظمة اليونيسيف في اليمن) عن هذا التواطؤ مع مليشيا الحوثي، وغياب معايير عادلة لتوزيع المساعدات، فأجابها، بالحرف الواحد، إذا أردنا الالتزام بالمعايير والتصريح بما يجري حقيقة على الأرض، فسوف نغلق مكاتبنا في اليوم التالي، طبعاً هذه الإجابة كانت بعد طلبه إغلاق جميع أدوات التسجيل، فالإجابة أمام الكاميرات والتسجيل راوحت فيما هو معتاد من الإجابات، أطبق الصمت من هول الإجابة الصاعقة، والتي ألقت بظلال قاتم من الشك حول كل ما تقوله وتفعله المنظمات الدولية في اليمن.

وفي غمرة الصدمة داهمني السؤال عن حقيقة ما يجري في اسلم فبعد أن تملكني الشك عن كل ما روج عن اليمن أردت أن أقف على حقيقة ما يجري هناك، فلماذا هذه الحال الذي هم فيه؟ وهل هو بسبب حصار التحالف كما يقال؟ أم أنه وراء الظاهر أسرار تخبئ نفسها أو تُخبأ قصداً؟
بدون شك هي منطقة شديدة الفقر، تُحكم من قِبل الحوثيين، لم تصلها نيران الحرب، وفيها مساحات قابلة للزراعة، وليس لما يجري فيها أي علاقة بالحرب، اسُتخدمت حوثياً للتسويق على أنها بنتيجة ما يسمونه العدوان، وهي أصبحت واحدة من أهم الوسائل الدعائية لإثبات صدق ادعائهم، فمثلما يستطع عناصر الحوثي جلب حزم الحشائش كي يقتات عليها الناس، كان بإمكانهم جلب الطعام واللباس والدواء، فالحالة المزرية والمأساوية هناك هي من صُنع الحوثيين أنفسهم لا أحد غيرهم.

أما في تعز فالمأساة التي هناك تتلخص في الهمجية التي زرعت فيها الألغام الأرضيّة والتي حصدت أرواح العديد من المدنيين، ففي منطقة مثل الجحملية، والتي جل سكانها من المدنيين، زرع ربما بقدر عدد سكانها ألغام، وحينما اندحروا عنها، وعاد السكان إليها استقبلهم الموت فاتحاً ذراعيه بدون رحمة، طبعاً هذه المأساة لن يكفي الجهد المحلي لمعالجتها بل تحتاج لجهد دولي صادق.

وهناك مأساة أخرى حلت بتعز وهي تمركز الحوثيين في المستشفيات، ما أدى إلى تدميرها في جلها وإن تم إصلاح الجزء البسيط منها، ولكنها لا تزال في إطار العاطلة عن العمل، أما بفعل التدمير أو الألغام المزروعة فيها، وكذا الأمر ينطبق على المدارس التي إما دُمرت أو زرعت بالألغام.
ولا تزال تعز محاصرة من جهتين، حيث لا يزال الحوثي يتمركز في منطقة في أطراف تعز تسمى الحوبان تنتظر أن تتحرر منهم.

وفي مدينة ربما يشكل سكانها ثلث سكان اليمن وتمر بهذه المِحنة الإنسانية، تغيب عنها تماماً جميع المنظمات الدولية لتقديم أي شكل للمساعدة، طبعاً ذلك بسبب الادعاء بوجود الألغام الأرضيّة، ولكن ما أرهقني هو السؤال عن سبب تواجد هذه المنظمات وبأعداد كثيفة في المنطقة التي يسيطر عليها الحوثيون، أعني الحوبان، فهل لهذا السؤل إجابة؟
وفي الرحلة إلى صعدة كانت في مواجهة حالة فريدة مع نوع من المدن التي تحصر ذاتها في إطاري اثنين فقط، الأول (العسكري) الذي يجمع في إرجائه قيادات ذات شأن، والتي أعدت وفق منطق يعتبر أن الحرب مع المختلف مشروعة في كل زمان ومكان، فالآخر المختلف إما عدو أو مشروع قتيل لذلك تأخذ الآلة العسكرية أهميةً دينية تفوق ربما بكثير قمتها الحقيقية.

والثاني وهو الأهم (المؤسسة الدينية) والتي تتبنى أيديولوجية اصطفائية تقوم على منطق الفرقة الناجية مستندتاً في ذلك لانتمائها لبيت النبي عليه الصلاة والسلام، وهي بذلك تخرج الآخرين اليمنيين من دائرة المساواة، وتنزلهم درجةً تأخذ مفهوم الرعية، وهي بذلك لا تسعى لحكم اليمنيين بموافقتهم، بل تدعو إلى ذلك كونها تدعي التفوق على اليمنين نسباً ومكانة.
وفي صعدة يقتصر التعليم للأطفال على أمرين اثنين فقط هما حب آل البيت، وسليلهم السيد عبدالملك الحوثي، وحمل السلاح وحرب الأعداء وقتلهم.

وهناك تعرضت محدثتي لمحاولة الرجم بحجر حاول أحدهم إلقاءه عليها، وآخر كان يصيح ما العدوان إلا النساء، للدرجة التي صوبت البندقية تجاهها، فلاذت بالفرار إلى سيارتها واللجوء إلى مرافقيها، وحين قررت للحظة رفعت الخمار عن وجهها تعرضت لوابل من الشتائم والمسبات
فكانت النتيجة أن هذه المنطقة هل معقل لجماعة تقدس تميزها وتعتبره ميزة تتقوقع في داخلها رافضة أي آخر مهما يكن انتماؤه، هنا أشكر المخرجة نسرين على جرأتها وتحديها الصعاب ومجابهة الخطر بكل أشكاله لتصل إلى الحقيقة وحدها، ولكني سألتها لكن كيف استطعتِ أن تصلي إلى كل تلك الأماكن رغم خطورتها؟، كانت الإجابة إنهم قوة الأمر الواقع كما تسميهم هي، والذين كانوا على قناعة أنها سوف تكون أداةً لهم لنشر ما يدعون، فكانوا عين كاميرتها ولكنها بفطنتها تمكنت من رصد الحقائق ورفضت التنازل عنها.

لأعد الآن إلى طرح الأسئلة الخانقة التي تولدت لدي من ذلك الكم من المعلومات، والتي نستمع في كل يوم إلى ما هو عكسها تماماً، للدرجة التي جعلتنا نعتقد أن هؤلاء الناس ما هم إلا حمامات سلام.
فما الغاية التي تجعل المنظمات الدولية ترى المليشيا لا تستند إلى أي شرعية تعتقل شعباً بأكمله تحت قوة السلاح؟ فلا أحد يمكنه أن يقنع، أياً كان، أن هذه الحقائق تخفى عليهم، إذاً هل لنا أن نسأل هل لهذه المنظمات أجندة أو غايات تريد تحقيقها غير ما هو معلن لتلك المؤسسات؟ لا أملك إجابة، ولكن السؤال برسمها طالما هذه الحقائق على الأرض.

السؤال الثاني: لماذا تدعم دولة مثل إيران هذه المنظمات طالما أن هذا سلوكها؟ ما هي غايات إيران من هذا التصرف؟ هل تريد أن توسع قاعدة التمذهب؟ أم هل تريد أن تحارب بهذه المليشيات القوى الصاعدة في الخليج وتعيقها عن ذلك؟ لماذا لا يمتلك المجتمع الدولي الإرادة لردع هذه الدولة عن حشر أنفها في صراع بين أشقاء؟ باعتقادي أن إيران تفعل ذلك لأسباب تخصها هي ولا علاقة لها بمصلحة اليمن ولا حتى الحوثيين أنفسهم، وسلوكها هذا سوف يدخل المنطقة في حالة مستدامة من الصراع، وأكاد أخشى أن يكون هذا واحد من أهداف إيران.

أما الاتحاد الأوروبي والذي يتباكى على حقوق الإنسان في اليمن، ويدين الجرائم صباح مساء، فموقفه ملتبس بقدر التباس مصالحه بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، فأكاد ألمح أوروبا تقدم على حساب مصالح المنطقة العربية، باعتبار اليمن كشهادة حسن سلوك للحفاظ على مصالحه هناك، أعني في إيران، وهو يغض الطرف تماماً، عن كل ما يقترفه الحوثيون من
جرائم بحق الإنسانية، ويقبل مقولة واحدة أن طائرات التحالف والحصار، هما فقط سبب ما يجري في اليمن، فهل من إجابة حقيقية أوروبية عن غض الطرف هذا؟ وهل لهذا السلوك المنافق أن يوضع له حد؟

أما المنظمة الدولية، فتكلفة رحلات مندوبيها وممثليها إلى اليمن وبدون جدوى تكفي لإطعام العديد من اليمنيين وعلاجهم، وأنا هنا أدعو إلى فتح تحقيق محايد يتعلق بالموقف الحقيقي للأمم المتحدة وقبولها التعامل مع مليشيا قهرت شعباً، فهل هذا جائز في شرعة الأمم المتحدة؟ ويضاف إلى ذلك سلوك المنظمات الإنسانية الذي يطرح العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول حقيقة ملازمته للمناطق التي يوجد بها الحوثيون، فهل ثمة تعامل وراء الكواليس فيما بين الطرفين؟

وفي النهاية، تحدثت عن الجهة التي ملكتُ معلومات وثقت بها ليس إلا، ومع ذلك يبقى اليمن حبيس الفقر والسلاح والأيديولوجيات القاتلة (استعيرها من المفكر أمين معلوف) إلى أن تأتي بارقة تنهي الحرب والقتل وتطلق اليمن وشعبه إلى الفضاءات المفتوحة.

عن (الرأي الأردنية)