شبام.. بيوت عالية في جنوب الجزيرة العربية

> علوي بن سميط

> الكثير والعديد ممن كتبوا عن شبام حضرموت أجانب وعرب ومحليون بمقالات ودراسات واستطلاعات في كتب أو صحف ومجلات أو تحدثوا عنها في ندوات ومحاضرات وبعض من هذه الكتابات ربما لم يطّلع عليها معظم القراء إلا القليل ومعظمهم من المهتمين والباحثين، وهنا أنقل شيئاً إليكم عن المدينة مدينتي العالية من كتاب حضرموت لمؤلفيه الألمانيان لوتار شتاين/ كارل هاينس، وترجمة عبدالفتاح هيكل وأ. د. محمد سعيد داود، وهو كتاب صدر في الثمانينات ما سطر ص 12/13/14 عن شبام حضرموت:
“ما الذي يشعر به الغريب عندما يرى من البعد صورة بيوت شبام العالية المتألفة في الحر اللافح في الوادي؟ خاصة فيما إذا كان قد انتظر لرؤية هذا المنظر عدة سنوات وتطلع إليه بعين المتخصص في هذا المجال؟ لقد غمرتني الدهشة والغيبة! لماذا ينبغي الصمت والهيبة من ذلك؟ بماذا أبدأ وصفي لهذه المدينة الفريدة من نوعها؟
من الأفضل الإشارة الى أوصاف الزوار السابقين لمدينة شبام والأخطاء التي نشأت في غمار حماسهم وعدم معرفتهم.

يقدر عمر هذه المباني بين مئة وستمائة سنة ويتراوح عدد أدوارها بين ستة إلى خمسة عشر طابقاً، لقد أحصى بعض الرحالة عدد النوافذ المتتالية في الواجهات العليا فاستنتجوا من ذلك عدد أدوارها، لقد كان ذلك استنتاجاً خاطئاً، إذ فاتهم أن هناك نافذتين متتاليتين في دور السكن الواحد في منازل الجنوب العربي، فهناك نافذة سميكة تبدأ من أرضية الغرفة وتقفل بمغلق خشبي يطلق عليها باب النافذة، أما النافذة الأخرة فهي صغيرة تقع بالقرب من السقف وتستخدم للتهوية والإضاءة عندما يغلق باب النافذة الكبيرة في شدة حر الجو وقت الظهيرة، فبيوت شبام المبنية من اللبن ترتفع بشكل مثير للإعجاب مسافة ثلاثين إلى أربعين مترا عاليا.. إن مدى عظمة هذه البيوت يمكن استنتاجه من الأدوار الأرضية العالية جداً.

وقبل صعودنا إلى سطح أحد هذه البيوت كان علينا أن نسمع شيئاً عن عمر هذه المباني، فمن المحتمل أن عمر مدينة شبام الحالية يتراوح بين مئة إلى ثلاثمائة سنة كحد أقصى، فهي تظل قائمة كلما كان السقف والصرف (المجاري) في حالة سليمة، فتسرب مياه الأمطار الغزيرة -وإن كانت نادرة- من خلال الشقوق في السطح يؤدي إلى حدوث أضرار في الدور العلوي الملاصق للسقف، كما أن اكتساح مياه الأمطار لقواعد البيوت والجدران يؤدي غالباً إلى انهيار المنازل، وإذا قدر المرء عمر مدينة شبام بحوالي 1700 سنة فهذا يعني أن هذه المدينة قد بنيت من جديد (ست إلى تسع مرات حتى الآن) وأن انقاض البيوت المهدمة من الماضي قد استخدمت لبناء البيوت الجديدة، فمن بين المواد التي استخدمت بعض أجزاء الأساس والأخشاب التي لم تهاجمها الحشرات بعد أن تم تنقيتها بعناية، كما خلط طين البيت القديم بالقش والماء وتم تحويله إلى طوب أخضر.

مما ذكر يتضح أن خرائب مدن قبل الإسلام في وادي حضرموت لم توجد إلا بأعداد قليلة وفي سور الحائط الأساسي أو كتل من الأساس، فالكتل العالية من الطين أصبحت غباراً تذروه الرياح، فهذه البيوت كانت -كما ذكر العلماء- موجودة في الممالك القديمة حيث أشارت أبحاث ف. مولر الأثرية إلى وجود بيوت ذات طوابق عديدة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام.

إن الأسباب التي أدت الى إقامة الحصون الحجرية (على الجبال وعلى سبيل المثال في منطقة يافع) هي نفسها التي أدت إلى تشييد المنازل العالية من اللبن في الأودية، فقد لزم استخدام كل متر مربع للزراعة، كما أن طريقة البناء للأغراض الدفاعية استدعت بناء البيوت كالأبراج والحصون، فإذا تتبعنا النزاعات الحربية بين الممالك القديمة في حضرموت بما في ذلك الصراعات القبلية وكذا التنافس على السلطة بين الأمراء والسلاطين حتى وقت قريب نستنتج من ذلك أنه لزم بناء هذه المنازل في شكل حصون.

دخلنا حصن العائلة بعد أن سمح لنا أصدقاؤنا برؤيته من الداخل.. يتكون الدور الأرضي من غرفة واحدة ارتفاعها حوالي خمسة إلى سبعة امتار، كان جزء منها مملوءا بمواد العلف ومختلف المخزونات في حين كان الجزء الآخر منها فارغاً، وفي حارات الأسواق بنيت في الدور الأرضي للمنازل متاجر صغيرة في حين تستخدم هذه الغرف خارج المدينة كزرائب للبهائم، أما الماعز فقد وضعت غالباً في الزرائب الصغيرة التي تلي الطابق الأرضي بعدة درجات كما هو الحال بالنسبة لغرفة المخزونات، ومن خلال الفتحات العليا للدفاع يمكن مكافحة العدو من الأروقة الصغيرة حتى في حالة تمكنه من دخول البيت. لقد كان الضوء خافتاً لهذا استخدمنا مصباحا يدويا لإنارة طريقنا عبر السلالم إلى الدور الأعلى. ففي الطابق الأول توجد غرفة كبيرة هي غرفة الضيوف (المبرز) حيث فرشت فيها الحصر التي وضعت عليها المخدات كما أسندت فيها الدواليب والصناديق الصغيرة التي تستخدم لحفظ الملابس والأدوات الشخصية على الحائط، أما في الدورين التاليين فقد رأينا فقط سلالم المنزل الواسعة ذات التهوية. فهذان الطابقان مخصصان للنساء والأطفال لهذا يعتبران بالنسبة للزائر الغريب كحرم بمعنى غرف يمنع على الزوار دخولها والطابق الذي يلي ذلك للأطفال، أما الطابقان العلويان فهما للرجال في المساء، وأخيرا يأتي السطح الذي هو نظام متكامل من الأسطح يسمح بقضاء وقت الراحة والنوم ليلاً إذ يمكن تحمل درجة الحرارة وهبوب الرياح ليلاً.

وتسمح الأسطح بنظرة مدهشة إلى الهوة العميقة للحارات التي تظل -بسبب شدة الحرارة في وقت الظهيرة- خالية من الناس حيث لا يسير فيها سوى بعض الأفراد ويمتد النظر من هنا بعيدا إلى بحر من الأسطح وإلى وادي حضرموت وحدائق النخيل وكذلك إلى جدران الحجر الجيري العالية والقائمة خلف المدينة.

دفعنا الحر إلى العودة نحو غرفة الضيوف التي كانت نوافذها مغلقة كما أن درجة الحرارة كانت محتملة هناك. وفي هذه الأثناء جلب لنا ابن مضيفنا الشاي المعطر بالهيل وكذلك الخبز الطازج على حصيرة للأكل وضعت في وسط الغرفة. وبعد جلوسنا واستنادنا براحة على المخدات لاحظنا سبورة معلقة على الحائط (إنني مدرس) أجاب مضيفنا على نظراتنا المتسائلة (أربع مرات في الأسبوع بمعدل ساعتين لكل درس أقوم بتعليم الفتيان القراءة والكتابة) مجانا! ثم ابتسم وقال (هذا طبيعي لماذا يدفع لي أبي وأمي اللذان أعدهما أيضا من ضمن تلاميذي مقابل ذلك؟).


وبعد فترة الاستراحة واصلنا زيارتنا للبيت حيث قدمت لنا تلك الزيارة حقائق جديدة ومثيرة حول كيفية بناء البيت ووظائفه المختلفة، ففي جوانب سلالم البيت توجد المراحيض (الحمامات) وغرف الغسل وهي عبارة عن غرف صغيرة نظيفة للغاية غطيت جدرانها بالجير الصلب وفوق أرضيتها فتحات ذات أغطية ومن خلال هذه الفتحات تخرج الفضلات إلى حفر أرضية يتم إفراغها من الحارة من وقت لآخر، أما الماء الوسخ وفضلات المطبخ فيتم التخلص منها عبر الفتحات أو من خلال أنابيب البالوعات الخشبية ومن واجهات البيوت ينساب الماء النازل عبر الأنابيب بعيداً عن قاعدة البيوت لعدة كيلو مترات وتستعمل لهذه الغاية قطعة حجر كبيرة توضع عند قاعدة البيت لتتحمل الصدمات.

والجديد الذي يعتبره كل ساكن في المدينة دليلاً على الاهتمام الاجتماعي المباشر من قبل الدولة هو مد أنابيب مياه الشرب إلى الحارات حيث تستخرج تلك المياه من آبار عميقة عن طريق نظام الضغط إلى شبكة متكاملة لتموين جميع المنازل، ولاتزال هذه الأنابيب متروكة في العراء داخل الحارات إلا أن إعادة التعمير تحت إشراف اليونسكو سيؤمن عدم تسرب المياه كما ستوضع هذه الأنابيب بالتأكيد تحت القشرة العليا للأرض.

وتتكون بيوت شبام من طوب يتألف من اللبن (الطين) المجفف في الهواء والذي سنتعرض لطريقة إنتاجه فيما بعد. ويتراوح سمك جدران الدور الأرضي بين متر ونصف ومترين ويتناقص هذا السمك نحو الأعلى حتى الحافة العليا للبيت. فذلك من خصائص منازل مدينة شبام. ومنظر البيوت بأعمدتها العديدة القوية شبية بالحصون كما أن معظم جدران البيوت مطلية بالطين إلا أن المنطقة العليا منها غطيت بطبقة كبيرة من الجير الأبيض. هذا ما كتبه فرايا ستارك ويعني بذلك أن الطوابق الجيرية العليا أو عددا منها تظهر حسب وصفه كتاج أبيض من القصدير على المدينة ذات اللون البني وكما ذكرنا من قبل فإن فترة بقاء البيت تحددها نوعية منطقة السطح لذلك فإن الجزء الأكبر من السطح مغطى بجبس رخامي يمنحها القوة والصلابة وعلى مر السنين تتصلب هذه المادة في الهواء والشمس بحيث تتحمل الأمطار الغزيرة ولكن لفترة قصيرة، إن زخارف السقف وأركان تعليق الملابس داخل الغرف وكذلك الأبواب المسورة وما شابه ذلك تحظى أيضا بنفس العناية وقد أفشى لنا سر هذا (الجبس الحضرمي الطبيعي) الممزوج بزلال البيض الذي يعطي لمعاناً ونعومة.

أما الأخشاب فتستخدم فقط في بناء بعض أجزاء البيت وتشكل جذوع النخيل سقالة يعتمد عليها جزئيا في بناء البيوت العالية، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن الأخشاب لتدعيم أسفل السلالم وكأعمدة للسقف أو دعامة توضع في وسط الغرف الكبيرة كغرف الضيافة وتتكون الأعمدة عادة من جذوع العلوب المشذبة بحيث توضع عليها تحت السقف أخشاب عريضة كبيرة وبسبب ارتفاع أسعار الأخشاب المستوردة من أفريقيا وجنوب شرق آسيا فقد وجدت بكميات قليلة جداً، كما أن جذوع أشجار النخيل كانت غير كافية للبناء لهذا استخدمت أخشاب محلية أخرى مثل أخشاب أشجار السنط والنبق والصيدر وأشجار شوكية أخرى بحيث يستفاد من الجذوع والفروع والأوراق والأزهار والثمار كما هو الحال بالنسبة لأشجار النخيل، أما الخشب الأحمر البني فيستعمل لسقف المنازل، إن كل ما ينبت في الوادي يتم استخدامه ففي الوقت الذي قيمت فيه ثمرة شجرة النبق كمادة غذائية فإنه وجب على الإنسان تفادى تفاح العشر السام ذي البريق الأصفر وبعد أن ودعنا أصدقاءنا في الحارة حانت فترة الراحة لتعود بعدها الحياة التجارية إلى مجراها الطبيعي من جديد. لم نذق للراحة طعما فقد تتبعنا في الحارات الظليلة ثلة من الأطفال اللاغطين بأسلوب ودي وبذلك يبدأ الجزء الثاني من دراسة البناء في شبام”.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى