دولة القانون واستحالة العودة إلى حضن «الوحدة»

> د. مروان هائل عبدالمولى

>
دولة القانون هي دولة العقل وسيادة القانون والمواطن، وحقوقه في هذه الدولة أعلى قيمة، والحريات الإنسانية والمدنية معترف بها ومضمونة وفقًا لمبادئ وقواعد القانون الدولي المقبولة عمومًا ووفقاً لدستور الدولة، دولة القانون هي المسؤولية المتبادلة بين الدولة والفرد، وهي الفصل بين السلطات الثلاث والمساواة للجميع أمام القانون، وقد اعتبر المفكر الإنجليزي، جيرمي بنتام، أن ما يميز الدولة عن سائر النظم الموجودة في المجتمع، هو أنها مصدر القانون وأساس وجودها عنده هو أنها تضع القوانين بقصد الوصول بالمجتمع إلى السعادة، والدول الاسكندينافية تعتبر من النماذج الحقيقية التي ينطبق عليها مفهوم دولة القانون والسعيدة في نفس الوقت؛ لأنها تعيش على أسس السمات الرئيسية لحكم دولة القانون بحذافيرها، علاوة على ذلك استقرار أمني وسياسي واقتصاد مفتوح وبنى تحتية متطورة وموثوقية الاتصالات السلكية واللاسلكية ومستوى عالٍ من التفاعل بين المؤسسات والمراكز العلمية والتقنية والجامعات جميعها من أجل رفاهية المواطن، التي بسبب هذه الرفاهية وحضورها تحتل الدول الاسكندينافية كل عام المراتب الأولى على مستوى العالم في مسابقة أسعد الناس، التي تُنظم بدعم من باحثين في الأمم المتحدة وبطريقة استفتاء يأخذ بعين الاعتبار مؤشرات مثل المواطنة، واحترام الحريات المدنية والدينية، والأمن الوظيفي، ومستوى الفساد، والحرية الشخصية، والثقة في المستقبل، والكرم، وأسباب الفرح، والقلق.. الخ.

بعد الوحدة اليمنية أصبحت فكرة بناء دولة القانون مركزاً للفكر القانوني السياسي والدولة، ثم حصلت النكسة عندما جاء التعزيز لهذه الفكرة ليس من الدستور والقانون؛ بل من القبيلة المتخلفة في الهضبة وجهلتها، الذين لم يقبلوا دولة ومجتمع أوسع من قبيلتهم فقتلوا هذا التوجه لأنهم اعتبروا الجنوب وشعبه ملكية قديمة عادت لهم ولقبائلهم، وبسبب ذلك السلوك الحاقد المتخلف وغير الوطني أصبح مصطلح دولة القانون اليوم بعيداً كل البعد عن سماء الجمهورية اليمنية، والدولة اليمنية اليوم مأزومة ومعرضة للخطر تعيش حالة من الاضطرابات والحروب والفوضى وغير مؤهلة لتكون جزءاً من المنظومة الدولية  لكثرة سماتها الفريدة السلبية، وأولهم الإرث السيئ لحكم القبيلة وحمران العيون من مشايخها للبلاد بمبدأ «أدي زلط واعمل غلط» الذي حول البلاد إلى دولة يلعب بها الريال المحلي والإقليمي، والدولار الأمريكي دولة مزعزعة لثقة دول العالم والمؤسسات والأشخاص والخطرة على السلم والأمن الدوليين.

اعتقد الكثير من الجنوبيين بعد حرب 1994 أن النظام السياسي الجديد في اليمن سيكون صورة من الاستبداد المستنير، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، إذ تميز النظام الجديد بعلو القبيلة على الدستور والقانون وجعل كل مواطن وزائر ومقيم في اليمن يشعر في معظم الحالات عندما يتحدث مع ممثل السلطة فأنه يتحدث مع ممثل قبيلة معينة وليست الدولة، لأن رجال السلطة في دولة ما بعد 1994 كانوا من حمران العيون القبلية، خليط أكثريته جهلة ونخبة فاسدة من ساسة وتجار دين وعسكر وسادة وشيوخ حمر وصفر وزرق وبقية الألوان المنتمية لسنحان ومران والإخوان، مارسوا أبشع أنواع السلوك الفوقي بحق المواطنين ممن لا ينتمون لهم، واعتبروا بقية فئات المجتمع هنوداً حمر، وبالذات الجنوبيون..

وبسبب هذا السلوك العنصري والفساد تحولت اليمن إلى دولة إخفاقات محلية وإقليمية ودولية ومنطلقاً لتصدير المخاطر والإرهاب والقانون الداخلي للبلاد فيها سارٍ  على المواطن حسب قبيلته وقوتها ونفوذها؛ لأن القبيلة في عهد حمران العيون هي الدولة، وأعرافها وأثوارها المهجرة ومجرموها فوق القانون، ورجال القبيلة هم من يعينون القادة الأمنيين ومن يفصلون بين السلطات الثلاث
ويشكلون الحكومة ويفرضون الوزراء، ومن يشكك في ذلك عليه رؤية تشكيلة الحكومات اليمنية المتعاقبة، وأسماء القبائل  كيف تتكرر عبر شخوصها في الحكومات من الديناصورات الأجداد والآباء حتى الأبناء؟ وكيف يتحكمون بالموارد الطبيعية والمادية والتوظيف والترقية  والقضاء؟

الدولة هي التجسيد القانوني لأمة ذات انتماء وطني وسيادة، ويمن اليوم دولة دون سيادة، وهناك مؤشرات اقتصادية وسياسية  واجتماعية وعسكرية واضحة على ذلك، فالدولة اليمنية اليوم ضعيفة وغير قادرة على تلبية أبسط حقوق المواطنين، الذين زادت حدة فجوة مشاعرهم السلبية في العلاقة مع الدولة وفيما بينهم شمالاً وجنوباً، وصلت إلى حد مطالبة الجنوبيين بالانفصال، وهذا مطلب قانوني وإنساني، وأعتقد أن من الأفضل أن نترك التحسس والعواطف جانباً عندما نتحدث عن الانفصال والحقوق ومصير شعب وأرض، وأن نتبع نهجًا أكثر برجماتياً في مسألة وضع البلاد المدمر من كل النواحي، حتى الإنسانية منها أوصلت الجنوبيين إلى فقدان الشعور بالانتماء إلى وطن الوحدة، واليمن الحاضر بشطريه الشمالي والجنوبي بحاجة إلى ناقل جديد للتوجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي من أجل تجنب مزيد من الصراعات والتخلف والأوبئة وتدخلات دول العالم..

وبالنسبة لأولئك الذين لا يكفيهم الدافع والمسؤولية التاريخية لمصير الشعبين، على الأقل ينبغي أن تكون الرغبة في تجنب وجود دولة واحدة فاشلة باستمرار وكارثية فاقدة لصفة الدولة الكاملة سببًا ثقيلاً بما يكفي للقناعة على حل الدولتين الأخويتين السلميتين بحدود 1990، فأزمة البلاد الداخلية والحرب الأخيرة جعلتا مسألة عودة الجنوبيين إلى حضن الجمهورية اليمنية طواعية أو بالقوة مستحيلة، وهذا ما أرجو أن تفهمه الخلايا الإستراتيجية في الإقليم التابعة للتحالف، التي تمسك بخيوط ملف الأزمة اليمنية.

الواقع الحالي لليمن محزن وخطر، والدولة في حالة ضعف شديد ومائلة إلى الفشل رغم جهود بعض الجهات الخبيثة الفاعلة  في اليمن التي تستخدم السلطة والتلون السياسي والقوة الإعلامية لتغير وتزيف الحقائق عن الوضع في اليمن بهدف الإبقاء  والحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، إلا أن الواقع مؤلم جداً ومكشوف وأكبر من جهودها السوداء، التي يحاولون من خلالها إخفاء الدمار المستمر لحمران العيون في الهضبة ليس للدولة فقط؛ بل ولقواعد الأخلاق والقيم الإنسانية والعادات والعلاقات التاريخية والأخوية والجغرافية والديموغرافية والاجتماعية في البلاد، وأعتقد اليوم إذا الباحثين التابعين للأمم المتحدة دعموا إجراء استفتاء عالمي لأتعس مواطن ودولة في العالم.. فإن اليمن ومواطنيها سيحتلون المرتبة الأولى بلا منافس على مستوى مجرة درب التبانة وليس على مستوى الكرة الأرضية فقط، لأن دولة اليمن كيان متميز دائماً بالتعاسة والتخلف وبالحروب والجهل والفساد بكل أشكاله وخالٍ من مفهوم التنمية والنهضة والعدالة، والمواطنون في هذا الكيان  مقسمون إلى قناديل وزنابيلهم، مشايخ وأتباعهم، تجار حروب وعبيدهم، لا يدركون أن الدولة جسد حقوقي وسياسي دماؤه الحقيقية الشعب وروحه الأساسية الانتماء للوطن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى