غيّروا وجه التاريخ: لافوازييه.. مكتشف الأكسجين مقطوع الرأس

> إعداد/ د. ياسر عمر الهتاري

>
قطعت رأسه بثانية واحدة وستحتاج فرنسا مئات السنين لتنجب مثله

لم تظهر على ذلك الطفل الذي ولد في ساعة من ذلك اليوم بتاريخ 26 من عام 1743 أي علامة من علامات النبوغ أو التفرد العقلي، كان يميل إلى العزلة والانطواء أكثر من ميله إلى البقاء واللعب مع أقرانه من الأطفال، كان منهمكاً في الدراسة بعيداً جداً عن اللهو والمرح، انتمى لعائلة ميسورة مادياً ولم يعانِ قلة المال، والده عضو في البرلمان الفرنسي، أما أمه فقد توفت وهو لا يزال طفلاً، كبر هذا الطفل اليتيم فأصبح ذات يوم من أعظم علماء الكيمياء، التحق بكلية باريس للحقوق وتخرج منها في عام 1764 وصار مؤهلاً لممارسة مهنة المُحاماة، إلا أنْ اهتماماته الفعليَّة كانت بالدراسات العلمية فأكتشف الأوكسجين، بل هو من أطلق على هذا الغاز هذا الاسم، أنه العالم أنطوان لوران لافوازييه.
رسم توضيحي لعملية احراق قام بها لافوازييه باستخدام عدسات لتكبير قوة أشعة الشمس
رسم توضيحي لعملية احراق قام بها لافوازييه باستخدام عدسات لتكبير قوة أشعة الشمس

قبل مولد هذا الطفل كان الاعتقاد العلمي السائد هو أن الهواء عنصر، إلا أنه كان أول من أوضح أن الهواء عبارة عن مركب من مجموعة من العناصر، كما أنه أول من أوضح بأن الماء أيضاً ليس عنصراً إنما هو مركب من غازي الأوكسجين والهيدروجين، وكان يُعتقَد أيضاً بأن كل المواد القابلة للاشتعال تحتوي على مادة سميت حينها بـ (الفلوجيستون)، وأن هذا الفلوجيستون ينطلق عند حدوث عملية الاحتراق، ولم يجد أحد تفسيراً حينها عن سبب زيادة اشتعال النيران عند وجود الأوكسجين أكثر من حدوث الاشتعال في الهواء العادي.
اجهزة ومعدات محتفظ بها من معمل لافوازييه
اجهزة ومعدات محتفظ بها من معمل لافوازييه

كانت مجموعة خاطئة من المعلومات لم يتمكن أحد حتى ذلك الوقت من تصحيحها، فكان أنطوان لا فوازييه هو أول من أمسك بهذه بخيوط هذه المفاهيم المغلوطة وأول من عمل على تصحيحها، فكان أول ما فعله هو أن أنكر أي وجود لأي مادة تحمل اسم (الفلوجيستون)، فكان هو أول من أشار إلى أن الاحتراق إنما يحدث نتيجة للتفاعل بين الأوكسجين والمادة المشتعلة، كانت كل هذه الحقائق حول الماء والهواء والنار والاحتراق مجهولة، ولقي لافوازييه معارضة شديدة من مجتمع العلماء حينها، لكن ما كان لهذه الحقائق إلا أن تنتشر بين الوسط العلمي عندما ألف وأصدر لا فوازييه كتابه (مبادئ الكيمياء)، بعد نشره لكتابه أخذ جمهور من العلماء بدراسة أفكاره والدلائل التي تقدم بها فوجدوا أن ما فعله لافوازييه هو تقدمه عليهم في نفض غبار المفاهيم الخاطئة التي كانت سائدة، كما وجدوا أنه قد بدأ بصياغة مفهوم جديد لعلم الكيمياء، إضافة إلى أن لافوازييه هو من أدخل الرموز في المعادلات الكيميائية وهو الأمر الذي جعل من هذه المعادلات مفهومة عالمياً، رشح نفسه لعضوية (المجمع العلمي) وكانت المفاجأة الكبيرة له بأن تم قبوله في عضويته، ولم يكن حينها قد أتم الخامسة والعشرين من عمره.

اهتم لا فوازييه أيضاً بعلم الجيولوجيا، وقام برحلة علمية مع أستاذه (جان جيتار)، وخلال هذه الرحلة العلمية أصبح لافوازييه حاد الملاحظة، وذلك لطبيعة المهمة الموكلة له بقياس درجة الحرارة عدة مرات في اليوم، إضافة إلى فحص التربة وتحديد منطقة الدراسة بدقة، إضافة إلى جمعه لعينات من النباتات، كما زار المناجم وأخذ عينات من معادنها، وحظيت أبحاثه حول الخريطة الجيولوجية لفرنسا باهتمام كبير، فوجد أن في هذا العالم الكثير مما يحتاج إلى الدراسة والتفسير.

أعدمه القاضي وقال: الثورة الفرنسية لا تحتاج إلى عباقرة

كان علم الكيمياء حتى هذه اللحظة متخلفاً عن باقي العلوم كالفيزياء والرياضيات والفلك، فكان يُعتقَد أن الماء عندما يتبخر يخلف تراباً في قاع الإناء، إلى أن أشار لافوازييه إلى أن هذا التراب ما هو إلا نتاج لتفتت الإناء ذاته، وكان دليله في ذلك هو أن وزن الإناء يقل بمقدار وزن هذا التراب المتخلف في قعره، فدحض فكرة أن (الماء يتحول إلى تراب) والتي كانت سائدة علمياً آنذاك.
كان لافوازييه أيضاً قد لاحظ أن بعض المعادن يزداد وزنها بعد عملية الاحتراق مثل الفوسفور والكبريت، فكان هو أول من أكتشف بأن المعادن تمتص الأوكسجين عند حدوث عملية الاحتراق، لم يكن حينها الأوكسجين قد عرف بهذا الاسم، بل كان معروفاً حينها بـ(الغاز منزوع الفلوجيستون) فأطلق عليه لافوازييه هذا الاسم (الأوكسجين)، أعاد لا فوازييه تسمية العناصر الموجودة في الطبيعة بأسمائها الحالية كالهدروجين والنتروجين وألغى الأسماء القديمة كـ(زبدة الزرنيخ) و(زيت الزاج) وغيرها، وفسَّر عملية الاحتراق وأسقط ما كان معرفاً بالفلوجيستون، وكان أول من أنتج (الغاز المائي Water - Gas)، واخترع (مقياس الغاز Gasometer) وهو أول جهاز لقياس كميات الغازات ويستعمل عادة في المختبرات.
نسخة طبق الأصل لمختبر لافوازييه في المتحف الألماني في ميونيخ
نسخة طبق الأصل لمختبر لافوازييه في المتحف الألماني في ميونيخ

انطوان لافوازييه - رسم الفنان بروسار جنفييف دي بوليو
انطوان لافوازييه - رسم الفنان بروسار جنفييف دي بوليو
أطلق لافوازييه مجموعة من المصطلحات العلمية التي ما لبثت أن تم تداولها في الكتابات والأبحاث الكيميائية، وضع لافوازييه (قانون بقاء الكتلة) و(قانون احتراق الأجسام) وكيف أن بعض من كتلة الأجسام تتحول إلى غازات عند حدوث عملية الاحتراق، فأصبح لافوازييه في قمة المجد العلمي والكثير من المنتديات العلمية تتحدث عن إنجازاته، حيث أصبح علم الكيمياء يتشكل بقوة نتيجة أبحاث واكتشافاته، وأصبحت الكيمياء تخطو بثبات نحو الفيزياء والفلك اللذان كان قد تقدما عليها كثيراً حينها.

تمثال لافوازييه في باريس
تمثال لافوازييه في باريس
هكذا قالها وصاغها لا فوازييه: «في التفاعل الكيميائي المادة لا تفنى ولا تخلق من العدم بل يُعاد ترتيب العناصر في المادة، ووزن المواد الداخلة في التفاعل يساوي وزن المواد الناتجة عن التفاعل»، فانتهى بذلك حلم من كان يطمح من العلماء أن ينتج الذهب من المعادن بواسطة التفاعلات الكيميائية، وهي الخرافة منذ أيام أرسطو.
قامت الثورة الفرنسية واكتسحت فرنسا بأكملها، واكتوى لافوازييه بنيران هذه الثورة، وبحكم أن لافوازييه كان مسؤولاً عن مختبر الذخائر لخبرته في إنتاجها وتطويرها كيميائياً فقد أتهموه بالتآمر على الحكومة المشكلة بعد الثورة، وذلك بتحريض من أحد العلماء ويدعى (مارا) والذي عمل لافوازييه بدحض العديد من أفكاره العلمية في الكيمياء، إلا أن (مارا) كان ذا نفوذ في الحكومة المشكلة حديثاً إلى الحد الذي بلغ فيها أن اتهمه بأن أبحاثه حول الهواء والأوكسجين إنما هي لرغبة لافوازييه في إطلاق الغازات في سماء باريس وخنق الشعب الفرنسي مستغلا جهل الحكومة الجديدة والذي كان معظمهم من الفلاحين محدودي العلم والثقافة، فتم إعلان الحجز على مختبر لافوازييه وصودرت كافة أبحاثه، وعلى الرغم من اعتراض لافوازييه على ذلك إلا أن نفوذ (مارا) كان أقوى بكثير من الحقائق على الأرض وأقوى من اعتراضات لافوازييه، تم إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن وأدرك وهو في سجنه بأن الأمور لن تنفرج بل ستزداد تعقيداً.
لوحة فنية للافوازييه وزوجته آن ماري -رسمها الفنان لويس ديفيد
لوحة فنية للافوازييه وزوجته آن ماري -رسمها الفنان لويس ديفيد

تمت إحالة التهم الموجهة إلى لافوازييه لمحاكم شكلية متكلفة أقيمت حينها على عجل، وعلى الرغم من محاولات بعض من زملائه الدفاع عنه أمام القضاء بالقول بأن الثورة أيضاً ستحتاج إلى علماء أمثال لافوازييه، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل وأصبح مصير لافوازييه بالإعدام محتوماً، فرد عليهم القاضي وقال: «الثورة الآن لا تحتاج إلى علماء»، وسقطت بعدها شفرات المقصلة على رقبة لافوازييه مزيحة رأسه عن جسده، أحد أصدقاء لافوازييه وهو عالم رياضيات يدعى (لاجرانج) قال: «لم يستغرق قطع رأس لافوازييه سوى ثانية واحدة، لكن فرنسا ربما ستحتاج لمئات السنين حتى تنجب رأسا أخرى مثلها»، بعد نحو مائة سنة برأ القضاء الفرنسي لافوازييه من التهم المنسوبة له، لكنه للأسف لم يتمكن من إعادة رأسه لمكانها.

وعلى الرغم من أن لافوازييه كان قد درس القانون في بداية حياته، إلا أن هذا القانون لم يحمه من أن تقطع رقبته بالباطل، وكان ذلك في تاريخ 8 مايو 1794 وهو لايزال في الخمسين تقريبا من عمره، فالعدالة كانت آخر ما ينتظره المرء من وسط جنون الثورة المسيطرة في تلك الآونة، أطيحت برأس العالم لافوازييه مؤسس الكيمياء الحديثة إلا أن اكتشافاته يدين لها العالم حتى الآن بكل التقدير والاحترام، فيكفي أنه لولا اكتشافاته لأضاعت البشرية عمرها حتى الآن في محاولاتها البائسة لتحقيق حلم تحويل الحديد إلى ذهب، فكان انطوان لوران لا فوازييه بأعماله ورأسه المقطوعة واحداً ممن غيروا وجه التاريخ.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى