طقوس وعادات مخصصة لاستقبال رمضان ولياليه في مدينة القطن بحضرموت

> تقرير/ خالد بلحاج

>
ما زال عمل المسحراتي فيها رغم توفر وسائل الإيقاظ الحديثة..
يتميز شهر رمضان الفضيل بعدد من الخصال والصفات والخصوصيات، منها أنه جعله الله تعالى سيد الشهور، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران وتصفد فيه مَرَدَة الشياطين، وفيه تضاعف الحسنات وغير ذلك كثير، فضلاً عن كونه موسم للطاعة والعبادة والتجارة الرابحة مع الحق تبارك وتعالى، لذلك يحرص المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على استغلال أيام هذا الشهر استغلالاً أمثل بالتفرغ للعبادة والاستزادة من فعل الخير وصلة الأرحام والصدقة.

وفي مدينة القطن بحضرموت، يعد الأهالي هذا الشهر محطة وقوف لمحاسبة النفس وتزويدها ببعض الجرعات الإيمانية حتى تصفو وتسمو، لهذا يبدؤون بالتهيئة لاستقباله من منتصف شهر شعبان، وفي وقت سابق من بداية شهر رجب.
ففي ليلة النصف من شعبان يجتمع المسلمون في بيوت الله مساءً للترحيب بشهر رمضان، فيتذاكرون فيما بينهم، حيث يذكر إمام وخطيب الجامع ويستعرض فضائل هذا الشهر الفضيل وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يستعدون لاستقباله، فيصبح الجميع بين راجٍ وخائف ومستبشر ومشفق، يرجون من الله عز وجل أن يبلغهم هذا الشهر، ويرزقهم فيه الإخلاص في القول والعمل، وتنطلق حناجر الصغار والكبار في صوت تملؤه الرهبة الممزوجة بالفرحة، تقشعر له الأبدان، مرحبة بهذا الشهر بصوت جماعي تتردد أصداؤه في أرجاء المسجد، وربما تجاوزها عبر مكبرات الصوت إلى ما شاء الله أن يبلغ، ومن أبرز ما يرددونه “رحبوا يا صائمين، شهر رب العالمين، أعاده الله علينا وعليكم أجمعينا”، ويخرج الناس من بيوت الله تصحبهم الأهازيج وتعلو وجوههم الفرحة يتبادلون التهاني فيما بينهم، ويتذكرون من كان معهم في العام الماضي ممن توفاهم الله، وهم يرون تباشير الشهر الفضيل قد حلت في الأفق، يبدأ بعدها العد التنازلي لقدوم الشهر الكريم.

الاستعداد والتجهيز
تبدأ ربة البيت في الانشغال بأمر بيتها، فتعمد إلى تجهيز احتياجات رمضان، وأول ما يتم التأكد منه وجود التمر في البيت وكذا الدقيق والفتة والشربة وما يلزم من المشروبات والحلويات، ثم تلتفت إلى البيت من الداخل والخارج، إن كان هناك ما يحتاج إلى إصلاح في المبنى أو مكان الجلسة المسائية، وهل يحتاج إلى بعض النورة أو المحضة وهي إصلاح المبنى من خلال طلائه بمادة الطين وتجديده، فتتفقد كل كبيرة وصغيرة، ويتم تجهيز الثياب الخاصة بالأطفال وخصوصاً قمصان الصلاة للبنات الصغار، كي يتم تعويدهن على الصلاة وتعميق الإحساس بروحانية الشهر الفضيل، أما رب الأسرة وجميع أفرادها فهم على استعداد تام لتلبية كل الطلبات، ففي رمضان لا وقت لذلك، فهو شهر تفرغ لعبادة الله وطاعته، فتجد الأسواق مزدحمة بالناس الذين يأتون من كل حدب وصوب لشراء حاجياتهم ومتطلبات هذا شهر الصيام، أيضاً هناك استعداداً من نوع خاص، حيث تهرع الأسر في شهر شعبان إلى جمع أعواد الحطب من شجرة السيسبان (المسكيت) كعامل مساعد للطبخ، وخصوصاً أنهم يعتمدون على طبخ الخبز في التنانير.

وفي المساجد تتضاعف الاستعدادات.. فمثلاً ينظرون لوضعه وهل هو جاهز لاستقبال ضيوف الرحمن؟ هل كل متطلباته ومستلزماته متوفرة كالمصاحف والفرش والمياه ومكبرات الصوت والإضاءة والتمور للفطور، ناهيك عن توفير البخور والروائح الطيبة التي ستجعل المصلين في راحة حينما يؤدون الصلوات، وخصوصاً صلاة التراويح التي ربما أحضِر لأجلها إمام إضافي من خارج المسجد ممن يحفظون القرآن ويتمتع بصوت حسن ليؤم الناس في صلاة التراويح، وكذا حلقات القرآن والدروس التي تلي الصلوات ويحضرها الكثيرون.

خصوصية أول ليلة من رمضان 
تعد الليلة الأولى من شهر رمضان ليلة متميزة، ولها خصوصيتها يستشعرها جميع المصلين، فبعد صلاة المغرب يخرج المصلون متجهين بإبصارهم جهة الغرب، يدعكون أعينهم علّهم يرون هلال شهر رمضان، فاليوم هو التاسع والعشرون من شهر شعبان، ويبقون في شوق لمعرفة اليوم التالي، هل هو الفاتح من رمضان أم المكمل لشعبان، وفي غمرة هذا التلهف والإحساس يأتي الخبر عبر وسائل الإعلام بأن يوم الغد هو أول أيام الشهر الفضيل، فتنطلق الأعيرة النارية ابتهاجاً بهذه المناسبة، ويمارس الأولاد بعض الألعاب فرحاً بقدوم سيد الشهور، وفي السابق كان الحاكم يخرج في حاشيته وجماعة من أهل الحل والعقد ورجل حاذق لديه الخبرة بمنازل الهلال ليتمكّنوا من رؤية هلال رمضان في موعده، فإذا تمكن من رؤيته أو أحد آخر، تصرف الأنظار لجهة أخرى، ثم تعاد الكرة، فإذا تمت الرؤية مرة ثانية بشكل صحيح أثبت الهلال، حينئذ يشرع الأطفال الصغار الحاضرون بالتكبير والصخب الشديد الذي يعبرون به عن فرحتهم بدخول الشهر، ويتسابقون في إيصال الخبر إلى الأهالي وهم يرددون: “رمضان جاء يا حيا به، جاب العشاء في جرابه”، فينتشر الخبر، ويرسل الحاكم مكاتبيه إلى المناطق الأخرى فينطلق أناس مخصصون لهذه المهمة، مرددين بصوت عالٍ (ألا وأنه هل)، وتشعل النيران في أماكن محددة ليراها من لم يصله الصوت، فيعرف أن الهلال قد ثبت وتطلق الأعيرة النارية بطلقات معدودة تعارف عليها الناس، ويتبادل الناس التهاني بقدوم الشهر والفرحة مشرقة على وجوههم، ويتوجّه المصلون بعد أذان العشاء بشوق شديد ورغبة عارمة نحو المساجد لأداء صلاة التراويح، فتكتظ بيوت الله بضيوفه الذين أتوا من كل حدب وصوب يرجون رحمة الله تعالى وبركة هذا الشهر الفضيل، وبعد ليلة عامرة بالطاعة والعبادة والتواصل والتزاور والمباركة بحلول الشهر يستيقظ من غلبه النوم في تلك الليلة قبل الفجر بساعة أو نحوها لتناول وجبة السحور (الفلاح)، فترى الصغار والكبار مجتمعين حول المائدة يتسحّرون، ثم يتوجّه الرجال نحو المساجد لأداء صلاة الفجر، بعد الصلاة ينتشر الكثيرون في أرجاء المسجد يتلون آيات القرآن الكريم وقد حدد كل واحد لنفسه مقداراً من كتاب الله يقرؤه، فيما يعزم البعض على أن يختم خلال الشهر مرتين أو مرة على الأقل، ومن كانت له همة أكبر ربما ختم المصحف خلال عشر ليالٍ أو أقل، بينما يأخذ البعض من الصائمين قسطاً من الراحة بعد ركعتي الشروق في بيت الله أو في داره.

وفي أول يوم من أيام شهر رمضان، وبعد أن يحضر غالبية الناس الدروس في المساجد بعد صلاة العصر، يتجهون نحو السوق العام لشراء ما ترغب به أنفسهم مما لذ وطاب من الحلويات والفواكه والخضار وغير ذلك، الأطفال يلعبون ويلهون ويلبسون أجمل الثياب ثم يعود الجميع إلى منازلهم في انتظار أذان المغرب، إنها لحظات ربانية تلفها روحانية الشهر المبارك مصحوبة بدعاء المسلمين قبيل الأذان، صفاء القلوب ونقاء النفوس، حينما تجتمع الأسرة كبارهم وصغارهم حول مائدة الإفطار، الكل مطرق برأسه تتحرك شفتاه مناجيه الحق سبحانه بأن يتقبل الصيام والصلاة والقيام في انتظار أن يصدع المؤذن بصوت الحق: الله أكبر، الله اكبر، وهكذا يستمر الحال طيلة أيام الشهر الفضيل.

مائدة الإفطار
في بيوت مدينة القطن عادة ما تتزين مائدة الإفطار بأشياء ضرورية لابد من وجودها، وهي: التمر، القهوة، البقل (الفجل)، الشربة، السمبوسة، الباجية، المطبق، فضلاً عن العصير والماء البارد الذي يطفئ حرارة العطش في الجو الحار والجاف الذي يميز وادي حضرموت، خصوصاً عن بقية مناطق المحافظة والبلاد عموماً، وما إن يصدع صوت الحق مجلجلاً في السماء، تمتد الأنامل لتأخذ حبة التمر الأولى وتسمي الله معلنة مؤملة اجتياز اليوم الأول بقبول وعفو ورحمة من المولى عز وجل (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله)، وتبدأ الجلسة العائلية بعد أن يؤدي الذكور صلاة المغرب في المساجد، وتجتمع النسوة في البيت ليصلين المغرب في جماعة.

جلسة عائلية
في كل ليلة من ليالي شهر رمضان تجتمع الأسرة في كل بيت بعد الإفطار في جلسة عائلية يتجاذب فيها الجميع أطراف الحديث، وبينهم حبات اللب (الحنظل الحضرمي) وبعض المكسرات والحلويات وفناجين الشاي الصغيرة اللطيفة وصوت الملاعق وهي تحرك السكر في فناجين الشاي الأنيقة، الذي يضفي جواً بديعاً على هذه الجلسة، فتعلو الضحكات البريئة وتنبعث الابتسامة الهادئة وتنسى كل الخلافات والمشاحنات، ويفتح الكل صفحة جديدة، وتستمر الجلسة حتى يحين موعد صلاة العشاء فتفترق الأبدان وتبقى القلوب مجتمعة على المحبة والخير والصفاء، وبعد انقضاء الصلاة يعود الجميع لتناول وجبة العشاء والتي عادة تكون من المكرونة أو الأرز أو الخبز بالإضافة إلى بعض الحلويات مثل الكرامل والجلي والكاسترد (التطلي).

التزاور والمشاهرة
في الليالي الأولى من شهر رمضان يبدأ الأرحام بزيارة بعضهم البعض، فيزور الأخ أخاه والجار جاره والبنت وزوجها يذهبون بعد الإفطار أو ربما بعد العشاء إلى بيت أهلها، ليباركوا بحلول الشهر، كما تعج شوارع البلدة بالحركة بين ذاهب وآيب، ويتم تحديد المواعيد مسبقاً حتى لا تختلف الزيارات فالكل مهيّأ لأن يزور أو يُزار، وتتجسد صلة الأرحام جليّة في هذا الشهر، ويترقب الجميع حضور من تعودوا حضورهم في الليلة المحددة في الوقت المعروف، وربما سبب غيابهم إشكالاً عند بعض الأسر، فهذه من الأمور التي يحسب لها ألف حساب، والمعروفة عند أهل حضرموت بالتشهير أو المشاهرة (من الشهر والمباركة به)، ويقال: “بانشاهر أو بانشهر لآل فلآن”، أي سنبارك لهم بحلول الشهر في بيتهم.

إفطار الصائم
ومن العادات الجميلة في رمضان (التفاطير ومفردها تفطير)، والمقصود به إفطار صائم، فمنذ الليلة الثالثة وربما الثانية يبدأ الأهالي بدعوة أقاربهم وأرحامهم وجيرانهم للإفطار لديهم الليلة الفلانية، وربما أصبح من المعروف في معظم مناطق المدينة أن الليلة الفلانية هي ليلة الإفطار عند آل فلان سنوياً، ولم تقتصر الإفطارات على البيوت فقط، بل إنها تقام طيلة الشهر موائد دائمة لإفطار صائم داخل المساجد وجوارها، وأيضاً على الطرقات وإفطار عابر سبيل.

وطيلة ليالي الشهر الفضيل، تكون تلك الليالي عامرة بالسّمار والناس في حركة دائمة والمقاهي تعج بمرتاديها لتناول الشاي وغيره، وكذا اللعب بالورقة والضمنة، وعلى الطرف الآخر تزدحم النوادي بالشباب الذين يمارسون هواياتهم الرياضية في مختلف الألعاب.

ابتهاج الأطفال وختومات المساجد
في عصر رمضان يجتمع الأطفال بنين وبنات مع أولياء أمورهم أو إخوانهم الكبار حول المسجد الذي ختم الليلة، فتجد الباعة مفترشين الباحة أمام المسجد وقد ارتدى الصغار الحلل الجميلة والبدلات الجذابة ومع كل واحد منهم سلة يضع فيها ما يشتريه من البسكويت والكاكاو والنعنع وغير ذلك مما يعجب الصغار، وترى المكان كله منتعشاً بالحركة والفرحة تطغى على المكان، وهناك البنات الصغيرات يلعبن في براءة ويرددن بعض الأهازيج الرمضانية التي لا تسمعها على الإطلاق إلا في رمضان، ومنها: “ليت رمضان يقعد عندنا سبعة أشهر، والمديني ملا جحلة ومعنا له البر”، وإذا ما اقترب وقت صلاة المغرب رددن بصوت واحد حاد ورقيق تصحبه البراءة المعهودة لدى الأطفال: “يا مغرب أذّن شف أمي صيمة، بغت لقيمة من البريمة، يا علي بن كرامة، طلع طلع المنارة، وشو شو فوق المنارة، شو شو صندوق جاوة”، ثم ينصرف الجميع نحو بيوتهم ليجتمعوا يوماً آخر عند مسجد آخر، طيلة أيام الشهر الفضيل، وفي بعض المناطق يحتفل الأطفال بألعاب أخرى كما هو الحال في منطقة العنين من ضواحي مدينة القطن، حيث يحتفلون ليلة الحادي والعشرين من الشهر بما تسمى بلعبة (الكوبار)، حيث يلبس الأطفال البنين والبنات أجمل الثياب ومع كل واحد سلة بها حلويات ويجتمعون بجانب بيت أحد مؤسسي اللعبة، ويتم الاحتفال حيث يردد الأطفال الأهازيج والأناشيد منها: “كوباري كوباري حقي وحق أختي”، ويستمر على هذا الحال حيث يجتمع أهالي القرية للمشاركة ومشاهدة أطفالهم، حتى يحين أذان المغرب، وفي عموم مناطق المدينة يكون الأطفال على موعد آخر من الابتهاج، حيث يجتمع مجموعة من أطفال الحارة مساء كل ليلة ليباركوا لعرسان جدد أو مولود جديد وكذا القادمين من الاغتراب مرددين بعض الأناشيد: “ذا دار مَن يا محلاها، الله يسلم مولاها، الله يسلم أهل جاوة، أهل الذهب والتجارة، الله يسلم أهل جده، أهل الوفاء والمودة..”، و “يا عمر هات حقنا، يا عمر لي من ربنا، ما عمر سلم لبوه، وأمه باتجيب أخوه”، وقد يكون عمر هو اسم مولود جديد، أما للعريس فيرددون: “ما سالم بغى له عروس وجهها كما الفانوس.. ما سالم بغى له مرة وجهها كما المنظرة.. يا عروس أندري بانشوفش.. يا عروس كحلي عيونش”، وبعد ذلك يقوم الأهالي بتوزيع الحلويات عليهم وهم في غابة من الفرح والبهجة.

المسحراتي
اعتاد الناس منذ القدم على عمل المسحراتي الليلي، الذي يمر بطبله ذي الدقات المميزة معلناً وقت إعداد السحور فتنتبه ربات البيوت على صوت المسحراتي لتنهض بهمة ونشاط لإعداد السحور أو (الفلاح) كما هو معروف بين الناس في حضرموت، وما يزال المسحراتي يمارس عمله بحب ورغبة، رغم وجود الفضائيات اليوم، واعتياد الناس على السهر حتى أوقات متأخرة من الليل، إلا أن ذلك لم يلغِِ مهمة المسحراتي.

وتأتي العشر الأواخر ليستلم المسحراتي أجرته من الأهالي الذين يدفعونها إليه بكل محبة ومودة، فعادة ما ينهض المسحراتي نهاراً أو بعد الإفطار ويدور على هذه البيوت بصحبته مجموعة من الأطفال تردد أناشيد خاصة بهذه العادة المتعارف عليها بمسمى (الوريقة) أو (الشامية) مرددين: “وريقة حيو وحيوتي.. وريقة والطعام في الضيقة” وغير ذلك، وعادة ما يحدد الأهالي أجرة المسحراتي وأطفاله المصاحبين له فقد تكون طعام (بر، ذرة، رز) أو نقوداً أو أي شيء آخر، وليس للمسحراتي حق في الاعتراض؛ بل يقبل ما تجود به نفوس الكرام من أهل الحي، بل وجدها حاضرة في رف الضيقة فأخذها بكل حب ورضا، فهي بركة الشهر الفضيل، وقد تختلف أنواع الاحتفال بهذا النوع من الوريقة من منطقة إلى أخرى”.”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى