عبدالله وهمام.. أنموذج لمأساة المعاقين في زمن الحرب

> تقرير/ جمال محسن الردفاني

>
في منزل متواضع، بمديرية حبيل جبر ردفان محافظة لحج، جنوبي اليمن، تعيش أسرة الحاج حسين جابر، في ظروف قاهرة ومؤلمة، بعد أن دفعها الوضع الصحي لطفليها «عبد الله» و «همام» إلى ترك منزلها الكائن في منطقة «الجزع»، والسكن مضطرة في منزل (إيجار) بمساكن مركز المديرية - منزل ضيق جداً - لتسهيل وصول الأطفال إلى المدارس والمرافق الصحية منذ بدأت الإعاقة بإنهاك جسديهما قبل 13 عاما.

ما أن تنظر إلى المنزل إلا وتراه يجسد مأساة الأسرة بكل فصولها، بوابة قماشية، أخشاب متناثرة، حجارة مبعثرة وكرسيا إعاقة متهالكان، وراء ذلك تقع غرفتا معيشة لا تتجاوز الواحدة (3×3) متر، ويقطن بداخلهما 11 من أفراد أسرة «الحاج حسين» الذين يكاد أن يتوقف شعورهم بالحياة. ما أن تلفت إلى المنزل وترى حالهم إلا وتلتمس المأساة في كل جدران المنزل، وتلحظ أيضاً الكمد في كل تنهيدة لطفل معاق، أو غصة تخنق والدهم المكلوم، كل شيء يعكس عمق الألم، وقساوة الظروف، ومرارة العيش، وتراجيديا الحكاية.

عبدالله وهمام مع والدهم
عبدالله وهمام مع والدهم

بعينين مرهقتين، وجسد نحيل، وأرجل ملتوية، وأياد معقوفة، ورأس مشرأب؛ يقعد «عبد الله» (17 عاماً) بصعوبة في أحد جوانب غرفة المعيشة، وبحركة مثقلة يحاول اختلاس النظر إلى الكاميرا علها تلتقط ابتسامته التي فقدها منذ أمد، على مقربة من ذلك يستلقي «همام» (15 عاماً) صريعاً للعناء بعد تعرضه للتواءات في مختلف عظام جسده النحيل، أفقدته القدرة على الحركة الطبيعية أو الجلوس بأريحية.

لرؤية «همام» تشعر أن ثمة ألم يعتصره، ويحاول مداراته قسراً، بصعوبة بالغة يزحف للوصول إلى إناء مملوء بالتراب، ليغمس أنامله النحيلة للتيمم صعيداً لأداء صلاة العصر بعدما بات هو وشقيقه لا يستطيعان استخدام دورة المياه إلا مرتين في الأسبوع.


في صبيحة كل يوم يستيقظان مبكراً للذهاب إلى مدرسة ابن سيناء، لتستجد رحلة جديدة من العناء، وسط غبار الطريق وعوائقها يتحركان ببطء، ينظران إلى المدرسة بأمل، وإلى حاليهما بإشفاق كلما زاد بهم التعب.. الريح لا ترحم وهنهما، الغبار يخنقهما، نزلات البرد تشقق أطرافهم شتاءً، وتكويها أشعة الشمس الحارقة صيفاً.

ما أن يصلا إلى المدرسة ويتنفسا الصعداء لبلوغ الوجهة، إلا وتشكي عظامهما ألم الجلوس المتواصل في قاعة الدراسة، الألم والتفكير بكيفية العودة إلى المنزل يشتتان تركيزهما أثناء الدراسة، وبعد المغادرة ينهمكا في خط سير، إن لم يجدا من يقودهما لظلا في ذات الطريق لساعات بانتظار من يوصلهما إلى البيت، وهناك في المنزل، رغم الألم، يقومان بمذاكرة الواجبات وبكل شغف، ولسان حاليهما يقول: «نريد أن نتعلم دونما ألم».

مأساة تروى
«الدكتور حدد لي عمليتين في الخارج، وأشتيهم يعالجوني».. بهذه الكلمات افتتح «همام» حديثه بعد أن فرغ من الصلاة التي أداها جالسا وبآلام لم تمنعه من الوقوف بين يدي الله، ليعينه والده على العودة إلى مكانه بعد الانتهاء منها، ليعود لإكمال حديثه التراجيدي وبنبرة يملأها الحزن، قال: «هكذا حالنا في كل يوم، أخي يعاني كثيراً، وظهري يؤلمني دائماً، الألم شديد، وأحياناً لا نتمكن من الذهاب إلى المدرسة، أنا حددوا لي عمليتين في الخارج، وأشتيهم يعالجوني..».


يعض همام على شفتيه إثر الألم ويستذكر أحد أحداث المعاناة قائلاً: «ذات مرة ذهبت وأخي عبد الله إلى السوق، وهناك بدأت السماء تظلم وتوحي بهطول المطر، ليسقط بعدها بغزارة، لم نستطع الهرب أو حتى الحراك، المطر غزير، والرياح عاصفة، لم يرنا أحد إلا بعد انتهاء المطر..»، ويكمل: «عندما تشعر بالعجز والألم حينها، لولا الرضا بإرادة الله لتمنيت الموت عن هذه الحياة التعيسة».

إعاقة مبكرة
قال الحاج حسين، وهو يسرد تفاصيل معاناة أطفاله: «منذ وقت مبكر ظهرت عليهم ملامح الإعاقة، احدودبت أجسادهم، واجهوا صعوبات في المشي، حتى أقعدوا، وفاتهم عام دراسي.. أسودّت الدنيا في عيني لرؤية أبنائي بذا الحال»، ويكمل: «كأسرة ريفية كنا نفضل العيش في قريتنا، ولكن لأجل مواصلة تعليم الأطفال انتقلنا للعيش في عدن، وبعد عام وبسبب الكثير من المنقصات وصعوبة الأحوال اضطررنا مجبرين العودة إلى هذا المنزل. الظروف صعبة، والأمر معقد جداً».
وأضاف: «أولادي كما ترى مقعدون» أجساداً تتحرك بألم، ونظرات بريئة موجوعة، وعوضاً عن معاناتهم تلك فهم أيضاً يحرمون من توافر بعض الاحتياجات الأساسية، ومرتبي البسيط يذهب بين إيجار المنزل وتأمين أشياء رئيسية للأسرة، الحرب ضاعفت المعاناة، وكان لها يد طولى في ما وصلت إليه الأحوال المعيشية لنا».

درجات اختبارات عبدالله وهمام
درجات اختبارات عبدالله وهمام

وتابع: «قمت بعرض الأطفال على أطباء متخصصين في محافظات عدة، ومختلف التقارير تفيد بأن «همام» يعاني من عدة تشوهات في الظهر والأطراف، إنحناء جانبي شديد في العمود الفقري، أما «عبد الله» فهو يعاني من إعاقة حركية متعددة في الأطراف السفلية والعلوية أقعدته عن الحركة إلى الحد الذي ترونه فيه».

تبدد أحلامهم بالعلاج
وأشار إلى أنه «قبل سنوات كانت هناك بعثة ألمانية في عدن، عاينوا الأولاد وقرروا إجراء عمليتين عاجلة لهمام وإخضاع عبدالله للعلاج في مركز متخصص، لكن أحداث عام 2011 دفعت بالوفد الطبي إلى مغادرة عدن، وهنا تبددت أحلام الأطفال بالعلاج، والتي كانت بمثابة الخلاص الذي انتظروه طويلاً».


وأردف: «أثناء آخر فحوصات أجريناها قبيل شهرين أوصى د. هرهرة استشاري جراحة العظام، و د. عبد الفتاح السعيدي اختصاصي عظام، في تقاريرهما لحالة «همام» بضرورة إجراء عدة عمليات تصحيحية للتشوهات في مركز متخصص، وهذا الأمر يستدعي السفر إلى الخارج. وأوصوا بتوفير كرسي كهربائي متحرك لعبد الله، وإخضاعهما لمركز متخصص في العلاج والتدريب والتعليم كون لديهم قدرات عقلية وذهنية ممتازة وهم بحاجة إلى الرعاية الصحية والاهتمام».

مناشدة
وزاد: «قدمنا التقارير لأكثر من جهة ولم نلتمس أي تجاوب حتى اللحظة، عبركم أتمنى أن تصل الرسالة إلى الجهات المختصة، المنظمات الإنسانية والهلال الأحمر وفاعلي الخير، نتمنى الالتفات إلى حال الأطفال وتحقيق أحلامهم بالعلاج ومواصلة الدراسة وإعادة شعورهم بالزهو والسعادة التي فقدوها».


وأنت تستمع إلى معاناة الأطفال وتشاهد حالهم تشعر أن جبالاً من الأوجاع تؤلمهم، وناراً من المتاعب تلفح أجسادهم، فتحولت البسمة إلى دموع، والسرور إلى حزن، والسكينة إلى جور ومعاناة.

خاتمة
ومع معايشة واقع العذاب، وعمق المأساة، وتراجيديا الشعور، يطرأ في خواطرنا السؤال وبتأمل، هل لمعاناة هؤلاء الأطفال أن تنتهي؟ وهل سيجدون آذاناً صاغية لإنهاء معضلتهم؟ أم إن الألم سيظل رفيقهم يسرق أعمارهم ويذرف دموعهم
دونما يلتفت إليهم أحد.؟
قد تبدو قصص الإعاقة متعددة في هذه البلاد؛ لكن حالة عبد الله وهمام، تشكّل واقعة مؤلمة لكل من شاهدها، واطّلع على تفاصيلها، وهي تعبير حقيقي، عن معاناة المعاقين اليمنيين وسوء الحال الذي وصلت إليه الأوضاع في البلد إثر الأحداث والحروب وانهيار الوضع الاقتصادي وتفاقم المعاناة.

خدمات صحية غائبة
د. مراد هيثم قائد، مدير مكتب الصحة العامة والسكان مديرية حبيل جبر محافظة لحج قال في حديث خاص: «إن عدد المعاقين في مديرية حبيل جبر بلغ قرابة 350 شخصاً يعانون من إعاقات حركية مختلفة».
وأشار إلى أن حكاية عبدالله وهمام ربما تكون الأبرز، لكن هناك أيضاً عدد من القصص المؤلمة للكثير من المعاقين الذين أجبرهم غياب الرعاية الصحية والظروف المعيشية لأسرهم إلى البقاء دون الحصول على العلاج والرعاية اللازمة.

وأوضح أن المعاقين في المديرية يعانون من ظروف قاهرة، إذ يواجهون آلامهم دون وجود من يعينهم على تجاوزها، وناشد جهات الاختصاص إلى دعم المعاقين وإمداد مكتب الصحة بما يلزم للوقوف إلى جانبهم، لاسيما وهم بحاجة ماسة إلى الرعاية العاجلة، لافتاً إلى تأثر البنية التحية للقطاع الصحي بشكل عام جراء الحرب.

وقال: «إن دور المنظمات المحلية والدولية المهتمة بشؤون المعاقين يبدو غائباً»، وأضاف بأنه «لا توجد هناك أي خطوات حقيقية أو مساعٍ للتعاون مع هذه الفئة وتقديم الرعاية الصحية المناسبة لإنهاء معاناتهم».

ونوّه إلى أن استمرار الحرب زاد من «أعباء سكان المديرية بشكل عام، والمعاقين بشكل خاص»، حيث يكابدون ظروف معيشية صعبة والكثير منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي والصحي، جراء الظروف المصاحبة للحرب وانهيار الوضع الاقتصادي في البلاد.

ولفت إلى أن المعاقين من فئة الأطفال حرموا من الجلوس على مقاعد الدراسة بسبب انعدام الرعاية الصحية اللازمة وعدم وجود وسائل النقل الخاصة، كالكراسي الكهربائية، إضافة إلى بُعد منازل المعاقين عن المراكز التعليمية، ووعورة الطريق.

وأضاف: «إنه عادة ما تُعزا أسباب الإعاقة إلى عدد من العوامل؛ منها: الوراثية، والبيئية، وضعف الخدمات الصحية قبل وأثناء الولادة، إلى جانب حوادث المرور المتزايدة، وأحداث الحرب والاقتتال، وسوء التغذية».

وكانت منظّمة «هيومن رايتس ووتش» قد أشارت إلى أن ثلاثة ملايين من المعاقين يشكلون حوالي 12 % من إجمالي سكان اليمن يواجهون تحدّيات متزايدة في الحصول على احتياجاتهم الأساسية، ومنها التعليم.
وتقول الأمم المتحدة: «إن الصراع المستمر منذ قرابة أربع سنوات في اليمن دمر نظامه الصحي ووضع 10 ملايين شخص على شفا المجاعة».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى