كلمة في الشهر الكريم

> رمضان شهر الروح والسمو بها.. فالإنسان - بحكم طبيعته المزدوجة - يسمو تارة ويهبط أخرى , يحلق حيناً في آفاق روحية عليا , كأنه ملَك ذو جناح , ويتمرغ حيناً في أوحال المادة والشهوة كأنه حيوان من ذوات الأربع .
فلا عجب أن نراه يعثر كما ينهض , ويخطئ كما يصيب , ويعصي كما يطيع . ولكن الله جعل له أكثر من مصفاة وأكثر من مطهرة يغتسل بها من أدرانه ويتطهر بها من خطاياه , يخرج منها نظيفاً نقياً , كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
فهناك مصفاة يومية هي الصلوات الخمس.. وهناك مصفاة أسبوعية وهي صلاة الجمعة.. وهناك مصفاة سنوية وهي صيام رمضان وقيامه.

يقول الحديث النبوي الذي رواه مسلم في صحيحه : (الصلوات الخمس , والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) .
فمن لم تطهره الصلوات اليومية , ولا الجمعة الأسبوعية , كانت لديه فرصة في رمضان ليتطهر فيها بحسن الصيام والقيام , ويحوز مغفرة الله تعالى لما فرط منه . فإن فاتته هذه الفرصة فهو الشقي المحروم . ورد أن جبريل عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يرتقي المنبر فقال : (بعُد من أدرك رمضان فلم يغفر له) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمين ! فيا بؤس من دعا عليه أمين الوحي وأمن عليه خاتم الرسل (1) .

فالصلوات الخمسة هي ميزان اليوم , والجمعة ميزان الأسبوع , ورمضان ميزان العام .
ورمضان شهر لانتصار الإنسان : انتصار إرادته على شهوته , وعقله على هواه . على أن أعظم ما يكون انتصار الإنسان حين يفعل الخير , ويعمل الصالحات , أداء للواجب , وابتغاء رضوان الله وحده . فهذه هي ذروة الإخلاص والتجرد , وهي ذروة السمو الإنساني .

والصوم الذي يأمر به الإسلام ويثيب عليه , ويفتح لصاحبه أبواب المغفرة والجنة , ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ومباشرة النساء , فمن الناس من يصوم حِمية من مرض , أو سعياً إلى صحة , أو احتجاجاً على مظلمة , أو خضوعاً لمراسيم , أو اتباعاً لعادة , أو نحو ذلك من البواعث والأغراض , ولكن هذا كله لا يقيم له الإسلام وزناً . والصوم المعتبر في ميزان الإسلام هو الذي يقوم به صاحبه (إيماناً واحتساباً) ، أي تصديقاً بوعد الله , وطلباً لما عند الله . وكذلك القيام ، ولهذا حرص الرسول على ذكر هذه العبادة حين قال : (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه , من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (2) .

إن الإسلام رسالة توحيد وتحرير , جاءت تحرر الناس من عبادة ما سوى الله , من عبادة الطبيعة ، وعبادة الأشخاص , وعبادة الأوهام , وعبادة الأهواء , وتوجيه العبادة إلى إله واحد , هو الرب الأعلى (الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى).
وهكذا كان الصوم عبادة خالصة موجهة إلى الله وحده . وفي هذا جاء الحديث عن الله عز وجل : (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم , فإنه لي وأنا أجزي به . يدع الطعام من أجلي , ويدع الشراب من أجلي , ويدع لذته من أجلي ، ويدع زوجته من أجلي) (3) .

وعلامة الصوم المقبول - الذي هو ثمرة الإيمان والإخلاص لله - أن يكف الصائم لسانه عن الزور واللغو , ويده عن الأذى , وجوارحه كلها عن المعصية , وأن يصوم ظاهره وباطنه عما يسخط الله تعالى , وأن يدفع السيئة بالحسنة , وإذا جهل عليه أحد أو سابه أو قاتله قال بلسانه وبقلبه : اللهم إني صائم !

بهذا ينتصر الإنسان , ويكون الصيام له جنة ووقاية , وإلا كان صياماً صورياً لا يُعِد صاحبه - في الدنيا - لتقوى , ولا يحقق - في الآخرة - لأهله مغفرة ولا رحمة ولا عتقاً من النار , وفي الحديث : (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع) (4) ، ( ومن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) (5) .
ونسأل الله أن يجعل من رمضان موسماً لتجديد إيماننا ، وإحياء قلوبنا ، ويجعل غدنا خيراً من يومنا , وأن يجعل حظنا من هذا الشهر المغفرة والرحمة والعتق من النار .​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى