انتفاضة العشرين من يونيو 1967م.. يوم مجيد في السفر الكفاحي لشعب عظيم

> عثمان ناصر علي

> أولا: الممهدات للانتفاضة
أطل عام 1967م والثورة الشعبية المسلحة في الجنوب العربي تدخل منعطف حاسم في مسيرتها الظافرة. فقد انقضى عام 1966م وقد أثبتت الجبهة القومية قدرتها على السير منفردة بعد رفضها قرار الدمج وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية والفدائية ضد قوات الاحتلال وعملائها، وبشكل خاص بعد قرار المؤتمر الثالث للجبهة القومية الذي انعقد في حمر بتاريخ 29/ 11 /1966م وانتخاب القائد الشهيد سالم رُبيّع علي (سالمين) مسؤولا عن العمل العسكري لجيش التحرير والقطاع الفدائي. وهكذا أطل عام 1967م مترافقا مع مجموعة من العوامل التي كانت تشير بما لا يقبل اللبس، أن بريطانيا تغرق أكثر فأكثر في مستنقع الجنوب الثائر:
- فقد سحب البريطانيون مهمات الأمن الداخلي من البوليس المدني وسيطروا عليها عبر القوات البريطانية نفسها، وقد كان دافعهم لذلك شكوكهم المتزايدة في ولاء بوليس المستعمرة لهم، خاصة بعد القبض على أحد مفتشي البوليس بتهمة الانضمام للثورة.

- إخفاق سلسلة الإجراءات التي اتخذتها السلطة الاستعمارية في عدن إيقاف أو حتى عرقلة مسيرة الثورة المظفرة، مثلا: توحيد أجهزة المخابرات القائمة، ورفع عدد كتائب لواء عدن (ايدن بريجيت) من ثلاث إلى خمس كتائب ثم أضيف إليها لواء (24)، تقسيم عدن إلى أربعة محاور أمنية هي: المنطقة الغربية (التواهي والقلوعة)، والمنطقة الوسطى (المعلا)، والمنطقة الشرقية (كريتر وخورمكسر)، والمنطقة الشمالية (الشيخ عثمان والمنصورة)، وتم توزيع القوات على أساس تلك المحاور.. وغيرها من الإجراءات التي لم تحقق أهدافها.
الرئيس قحطان الشعبي مع العقيد حسين عثمان عشال قائد الجيش
الرئيس قحطان الشعبي مع العقيد حسين عثمان عشال قائد الجيش

- نجاح الثورة في تصفية عدد من رؤوس أجهزة المخابرات محليين وبريطانيين كاد أن يقضي على فاعلية قسم المخابرات في عدن، ولم تفد عملية دمج أجهزة المخابرات في تحقيق النتائج المرجوة.
- التطور الواضح والخبرة العسكرية التي اكتسبها الثوار؛ حيث زاد نشاطهم كماً وكيفاً، وتحسّن إعداداً وتخطيطاً، وتنوعت الأسلحة المستخدمة في العمليات الفدائية، وأصبح الفدائيون أكثر جرأة في الاقتراب من القوات البريطانية والالتحام معها أثناء الاشتباكات.

- الالتفاف الوطني الكبير حول الثورة والدعم الشعبي الحاسم الذي حظيت به.
- قوة وصلابة البناء التنظيمي للجبهة القومية الذي يقوم على أساس نظام الخلايا السرية وحسن الاختيار للأعضاء والأعداد الصارم لهم للنهوض بمهمات العمل السري.
- ومن العوامل المباشرة في زيادة وتيرة الكفاح المسلح الإعلان البريطاني في ورقة الدفاع البيضاء الصادرة في 22 فبراير 1966م بأنها ستنسحب من الجنوب عام 1968م.

لقد مهدت كل هذه المتغيرات والأحداث لاندفاعة أقوى للثورة المسلحة عام 1967م، حيث انقضى عام 1966م وقد شهدت عدن لوحدها (480) عملية فدائية ضد أهداف ومصالح بريطانية، (حسب التقارير البريطانية).
وكانت دعوة الجبهة القومية للإضراب العام في التاسع عشر من يناير 1967م، في ذكرى احتلال عدن استعراض واضح لقوة الجبهة القومية ولشعبيتها وقدرتها الجماهيرية والعسكرية.

وبفعل النجاح الساحق للإضراب العام ولقوة العمليات الفدائية التي أدت إلى إلحاق (14) إصابة في صفوف القوات البريطانية فيما استشهد فدائيان، قررت الجبهة القومية استمرار الإضراب في اليوم التالي كذلك.
وعادت الجبهة القومية لتكتيك الإضراب العام مرة أخرى في 11 فبراير 1967م ذكرى قيام الاتحاد الفيدرالي، حيث تهيأت سلطات الاحتلال للموقف بسحب صلاحيات حفظ الأمن نهائيا من البوليس المدني والبوليس المسلح إلى قوات الأمن البريطانية.

وبالرغم من الإجراءات المشددة وقرار المندوب السامي بفرض منع التجول، فقد شهدت عدن اشتباكات ضارية ومتعددة في مختلف المناطق وفي الشيخ عثمان بالذات، حيث بلغ عدد الهجمات ضد قوات الاحتلال خلال الفترة 11 - 13 فبراير (66) هجوما، لذلك اعتبرت الجبهة القومية يوم 11 فبراير يوماً للشهداء.
وتواصلت العمليات الفدائية والنشاطات الجماهيرية المعادية للاستعمار وعملائه خلال ما تبقى من شهري فبراير ومارس 1967م. وشهد شهر أبريل موجة جديدة من الصدامات الضارية التي ترافقت مع زيارة بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في الجنوب العربي، والتي بدأت زيارتها في الثالث من أبريل 1967م، حيث سبقتها حركة إضراب شامل لمدة سبعة أيام توقفت خلالها الأعمال والمواصلات ولم تنقطع المظاهرات والاشتباكات.

فمنذ اليوم السابق على وصول البعثة تفجرت المظاهرات التي حاولت القوات البريطانية تفريقها بإلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع عليها من طائرات الهيلوكبتر، فكانت الجموع تتفرق عند إلقاء قنابل الغاز إلا أنها سرعان ما تعود للتجمع بعد انتهاء مفعول الغاز. وفي الشيخ عثمان حاصرت الجموع الثائرة مركز البوليس ولم تفك الحصار إلا نجدة من القوات البريطانية المعززة بالمدرعات. وقد تمكن أحد الفدائيين من تدمير إحدى مصفحات صلاح الدين حيث استشهد أثناء العملية.

وكانت حصيلة العمليات الفدائية في أول أيام وجود البعثة الأممية في عدن (71) عملية فقدت خلالها القوات البريطانية (15) فرداً من قواتها بين قتيل وجريح، فيما استشهد الفدائي البطل الذي دمر المصفحة.
وفي اليوم الثاني (الرابع من أبريل) تجنبت القوات البريطانية النزول إلى الشوارع وتسيير الدوريات، إلا أن مواقعهم ظلت عرضة لإطلاق النار من قِبل الفدائيين.

أما في اليوم الثالث (الخامس من أبريل) فقد حاصر الثوار بعثة الأمم المتحدة نفسها عند زيارتها للمعتقلين في سجن المنصورة من خلال مهاجمة القوات البريطانية المحيطة بالسجن والمتمركزة داخله بمختلف أنواع الأسلحة، ولم تستطع السلطات البريطانية إخراجها منه إلا تحت جنح الظلام وبواسطة طائرة هيلوكبتر.
وكان اليوم الرابع (السادس من أبريل) هو الأشد على القوات البريطانية؛ حيث تعرضت لأربعين هجوماً في منطقة الشيخ عثمان وحدها، وكانت المعارك فيها تأخذ طابع المواجهة مع القوات البريطانية وجها لوجه.

وغادرت لجنة الأمم المتحدة في السابع من أبريل، وهي على قناعة تامة بالموقف الشعبي الكاسح المؤيد للاستقلال. وقد بلغت حوادث تلك الأيام الخمسة (280) حادثة.
وابتداء من شهر مايو 1967م بدأت القوات البريطانية في إجلاء المدنيين والأسر البريطانية، كما بدأت عبر ميناء عدن ترحيل أجزاء من مكونات القاعدة البريطانية ومستودعاتها تمهيدا للانسحاب الكامل والمقرر في عام 1968م.

وتم في نفس الفترة تعيين مندوب سامي جديد، حيث تم استبدال السير ريتشارد ترينبول بآخر هو السير همفري تريفليان الذي حددت له مهمة ترتيب انسحاب بريطانيا من دون كارثة، فقد كانت سلطة السلاطين في ولاياتهم تزداد تدهوراً، وأصبح الاتحاد بلا قوة فعلية، وانقسم الجيش والأمن بين ولاءاتها القبلية وولاء قطاع كبير منهما للثورة بعد ثبوت انغماس عدد متزايد من جنود وضباط الجيش والبوليس في العمليات الفدائية ضد القوات البريطانية وتهريب الأسلحة للفدائيين.

لذلك كان من الضروري إعادة ترتيب أوضاع الجيش الاتحادي كي يصبح قادرا على تسلم زمام الأمور (حسب التصور البريطاني) بعد الانسحاب البريطاني المقرر عام 1968م.
فصدر قرار السلطات البريطانية في الأول من يونيو 1967م بإنشاء جيش الجنوب العربي من خلال توحيد خمس كتائب من جيش الاتحاد النظامي وأربع كتائب من الحرس الاتحادي، والتي وضعت تحت إشراف العميد داي (بريطاني).
وتم تعيين العميد ناصر بريك العولقي قائدا للجيش، بينما توزعت المناصب الرئيسية الأخرى بصورة لم تقنع ضباط الجيش الجديد، فكان ذلك بمثابة إضافة جديدة للتوتر الحاصل في الجنوب بأسره بصورة عامة وفي صفوف الجيش بصورة أخص.حيث تقدم (12) من كبار ضباط الجيش بمذكرة إلى المجلس الأعلى لحكومة الاتحاد والمندوب السامي البريطاني يعبرون فيها عن عدم ارتياحهم للأوضاع في الجيش وقدموا عدداً من المطالب التي رأوا أنها تساعد على تعزيز الانضباط والوحدة في صفوف الجيش.    
                                                                             
وبينما هذه التفاعلات تعصف بالبلاد حدث زلزال الخامس من يونيو 1967م، وتلقت الجيوش العربية في مصر وسورية والأردن هزيمة منكرة على يد الجيش الإسرائيلي الذي استطاع احتلال أراضٍ واسعة في كل من مصر وسورية والأردن وبسط سيطرته على كامل المدينة المقدسة (القدس).
وبدلا من أن تسبب هذه الهزيمة حالة من الانكسار والتراخي وفقدان الثقة بالنفس في صفوف المجاهدين العرب والجماهير العربية، إلا أن المرارة التي شعرت بها وعاشتها الجماهير كانت دافعا للصمود والتحدي. ولم يكن شعب الجنوب استثناء في ذلك فقد كان الإحساس الشعبي بأن بريطانيا حليفا لإسرائيل، وما أبداه جنود الاحتلال من شماتة لهزيمة العرب وزعامة جمال عبدالناصر وزهوهم بالانتصار الإسرائيلي، دافعا للفدائيين لتشديد الضربات لرد الاعتبار للعروبة المجروحة وللقومية العربية.
معسكر عشرين يونيو بكريتر
معسكر عشرين يونيو بكريتر

في هذا الجو المشحون بالتوتر كان من الطبيعي أن يؤدي أبسط احتكاك إلى إشعال حرائق. وكانت بداية الأحداث عندما قامت الحكومة الاتحادية بإيقاف أربعة ضباط من الذين وقعوا مذكرة المطالب التي رفعت إلى المجلس الأعلى لحكومة الاتحاد وإلى المندوب السامي في 14 /6 /1967م.                                                
وكان أبرز الموقوفين كل من العقيد حيدر بن صالح الهبيلي والعقيد حسين عثمان عشال. وكان ذلك الموقف يعبر عن جهل وعدم إدراك لحجم الاستياء والنقمة لدى أفراد الجيش والشرطة العرب. وعند تسرب قرار التوقيف قررت قيادة الجيش والأمن وبالتنسيق مع الجبهة القومية (ذات التأثير الكبير في أوساط ضباط الجيش والأمن) قبول التحدي واستباق القرار عبر القيام بحركة تمرد بداية الدوام الأسبوعي أي السبت 20 يونيو 1967م.       

لكن ارتفاع حدة التوتر أدى إلى تفجر المواجهة يوم الجمعة 19 يونيو أثناء محاولة ضباط وجنود معسكر (فقم) في البريقة الاستيلاء على المعسكر، لكن القوات البريطانية نجحت في وأد التمرد والسيطرة على الموقف.             
وفي نفس اليوم أعلن وزير الخارجية البريطانية من لندن سياسة حكومته القاضية بتحديد تاريخ الاستقلال، وكذلك توفير دعم جوي من حاملات الطائرات البريطانية الراسية قرب شواطئ المنطقة للحكومة الاتحادية بعد الاستقلال. وبدلا من أن تكون تلك رسالة تطمين تساهم في تهدئة الأوضاع المتوترة، ساهمت من حيث لا يرغب مرسلوها، في تفاقم وتعقيد الموقف، وزادت من إصرار الجبهة القومية وعناصرها في الجيش والأمن بضرورة أخذ زمام المبادرة والسير في مشوار التحدي والمجابهة إلى نهايته من خلال تصعيد الخلاف حول الضباط الموقوفين خاصة بعد أن أصبح من المؤكد سعي قوات الاحتلال وعملائها لتصفية خلايا الجبهة القومية المتغلغلة في صفوف الجيش والأمن.

ثانيا: تسلسل الأحداث
وفي يوم 20 يونيو 1967م كانت معسكرات الأمن والجيش التالية ساحة اندلاع الانتفاضة الباسلة: معسكر صلاح الدين (في البريقة)، معسكر ليك (الشهيد عبدالقوي)، ومدينة الاتحاد (مدينة الشعب)، ومعسكر شامبيون (النصر)، ومعسكر البوليس المسلح (20 يونيو)، وإن كان المعسكر الأخير هو الساحة الرئيسية لهذه الانتفاضة.             
وقد سارت تفاصيلها كما يلي وفق روايات من شارك فيها، حيث إن بعض التفاصيل المتعلقة بما حدث ذلك اليوم المشهود قد تم تجاهلها في بعض مما كتب حينها عن الحدث، أو أن بعض ما دون قد كتب بعد مرور سنوات طويلة:                                                                                                                                
1 - كانت البداية في معسكر صلاح الدين في منطقة البريقة، ففي الصباح الباكر وفي تمام الخامسة فجراً اقتحم ضباط وأفراد الكتيبة العاشرة بقيادة المقدم أحمد صالح بن لحمر مستودع الأسلحة، واستولوا على ما فيه، وسيطروا على المعسكر، وأعلنوا تمردهم.

2 - في السادسة صباحا قام الضباط والأفراد والمتدربون في معسكر ليك (عبدالقوي) بمنع السيارات من نقل الموظفين الإداريين إلى أعمالهم في المعسكرات الأخرى، ثم تصاعد الشغب؛ حيث قاموا بمداهمة مقر فرقة موسيقى الجيش وحطموا معدات وآلات الفرقة، ثم هاجموا نادي الضباط وأشعلوا فيه النيران واحتلوا غرفة الحراسة وأطلقوا سراح المسجونين، وقاموا باحتلال المعسكر وإطلاق النار وإحراق بعض المباني.

3 - حوالي التاسعة امتد الهيجان إلى معسكر شامبيون (النصر) في خورمكسر؛ حيث قام رجال الأمن بقيادة قائد المعسكر العقيد علي بن أحمد العبدلي بتحطيم أبواب مخازن السلاح، واستولوا على الأسلحة والذخيرة وتمركزوا فوق البنايات وعلى سور المعسكر، وقاموا بإطلاق النار على الدوريات البريطانية الواقعة بين معسكر النصر ومعسكر ردفان، فقتلوا وأصابوا (15) جنديا بريطانيا. إثر ذلك تقدمت قوة بريطانية نحو معسكر النصر من جهة المطار لاقتحامه وإعادة السيطرة عليه، فأطلقت عليها النيران وتوقفت واكتفت بحصار المعسكر من جهة المطار.

4 - وفي حوالي العاشرة قامت كتيبة الأمن المتمركزة في مدينة الاتحاد (الشعب) بقيادة المقدم محمد حسين الجنيدي باحتلال مبنى السكرتارية العامة، والذي يضم معظم الوزارات العامة، كما احتلوا أيضا مقر المعتمد البريطاني في مدينة الاتحاد، ومزقوا الأعلام البريطانية وحطموا زجاج بعض النوافذ.
5 - وفي معسكر البوليس المسلح (20 يونيو) علم أفراد المعسكر أن القوات البريطانية تهاجم زملاءهم في معسكر النصر، وللتأكد مما يحدث كلف المناضل عبدالله سالم العوسجي، وهو أحد القياديين الرئيسيين للمجال التنظيمي للجبهة القومية في البوليس المسلح وأحد العناصر المنخرطة في القطاع الفدائي، اثنين من العناصر لاستطلاع الأمور عن قرب، وهما الملازم ثاني عبدالله محمد الدباني، وجندي سائق محمد صالح. وعند وصول سيارتهما إلى أمام معسكر النصر (شامبيون) أطلقت القوات البريطانية عليها النار واستشهد الاثنان على الفور، وكانت الساعة حينها قد بلغت حوالي الحادية عشر ظهرا.

ولما علم زملاؤهما في معسكر (20 يونيو) باستشهاد الاثنين دعت القيادة التنظيمية في المعسكر، والتي كان من رموزها كل من عبدالله سالم العوسجي، وسالم محمد باهرمز.. وآخرين، جنود وضباط المعسكر إلى التسلح لمواجهة قوات الاحتلال والانتقام للمذابح التي تنفذها القوات البريطانية ضد جنود الجيش والأمن الجنوبيين في مختلف المعسكرات. وبعد الاستيلاء على المعسكر اتصل المتمردون بقائد أمن عدن العقيد عبدالهادي شهاب، الذي حضر وأبلغهم بضرورة ضبط النفس وعدم التهور والاحتفاظ بالذخيرة والامتناع عن إطلاق النار بلا مبرر، ووجههم بضرورة الانتشار على أسطح البنايات المقابلة للمعسكر.                                 
                                          
وما أن اتخذ الجنود مواقعهم حتى تقدمت سيارتا جيب دورية بريطانية باتجاه المعسكر على شارع الملكة أروى، وكانت الساعة حينها حوالي الثانية عشر ظهرا، وبلا أدنى تردد هاجمها جنود المعسكر فقتلوا ثمانية جنود بريطانيين، فيما أصيب واحد تمكن من الاختباء في مدخل إحدى العمارات. وعلى دوي إطلاق النار أمام معسكر البوليس المسلح تقدمت سيارتان أخريان من موقع تجمع القوات البريطانية قرب المحكمة على الطريق البحري، وأطلقت عليها النيران كذلك، فترجل ضابط وثلاثة جنود للاحتماء في محطة البترول الواقعة أمام المعسكر، بينما عاد البقية لطلب النجدة، لكن الرصاص لاحقت الضابط والجنود الثلاثة فقتلوا جميعا. ونظرا لهذه الخسائر دفع البريطانيون في الثانية عشر والنصف بمدرعة عسكرية وسيارتي جيب محملة بالجنود، لكن كثافة النيران واستهداف جنود المعسكر المتمركزين على أسطح البنايات وخلف المتاريس التي تم إعدادها، للجنود البريطانيين الواقفين على برج المصفحة، أرغم الطابور البريطاني على التراجع هو الآخر. كما حاولت طائرة هيلوكبتر التحليق فوق منطقة الاشتباك إلا أن النيران أطلقت عليها من المعسكر ومن أسطح العمارات وأصيبت إصابة مباشرة فسقطت على جبل شمسان.                                                                 

عند هذا الحد قررت القيادة البريطانية حشد قوة كبيرة معززة للهجوم على كريتر، فبدأت بتجميع قوات على محورين، الأول: العقبة على طريق المعلا، والثاني: الخليج الأمامي على طريق خورمكسر.
وخلال توقف الاشتباكات أبلغ المواطنون قيادة المعسكر بوجود الجندي البريطاني الجريح المختبئ في مدخل إحدى العمارات المقابلة للمعسكر.

وفي هذا الموقف تجلت القدرات القيادية والخبرة والحنكة للعقيد عبدالهادي شهاب، مدير أمن عدن الذي لازم جنود المعسكر منذ لحظات التمرد الأولى، فقد قرر استغلال الموقف إلى أقصى حد ممكن، حيث طلب من خمسة جنود لبس ملابس مدنية (معاوز ومشاد) ليظهروا كأنهم من الفدائيين مع أسلحتهم، وأبقى خمسة آخرين بالزي العسكري، وطلب من الذين يلبسون الملابس المدنية أن يتصرفوا وكأنهم يريدون قتل الجندي البريطاني، بينما يقوم العسكريون بالدفاع عنه وحمايته، وهكذا انطلت الحيلة على الجندي البريطاني المرعوب فأبلغ قيادته أن الذين يقاتلون هم الفدائيين، بينما يحمي الجنود المدينة والمواطنين. وفعلا تم تأجيل الهجوم البريطاني الذي كان مقررا لاقتحام المدينة واكتفى البريطانيون بمحاصرتها. واتصلت القيادة البريطانية بالعقيد عبدالهادي شهاب طالبة منه اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المؤسسات والمرافق في المدينة، كما طلبوا سرعة سحب جثث الجنود البريطانيين القتلى. فأبلغهم العقيد شهاب ضرورة وقف إطلاق النار حتى يتمكن جنود الأمن من سحب الجثث ونقلها.

كانت تلك ساعات ضرورية لكي يتمكن المتمردون من تنظيم أنفسهم وحتى تتمكن قيادة المعسكر والمجال التنظيمي للجبهة القومية من تقييم الموقف وتحديد سبل التصرف.                                                
وبينما كانت الاشتباكات بين الجنود المتمردين والقوات البريطانية تشتعل في كل المعسكرات في عدن، تحركت الكتيبة الرابعة المتمركزة في العند باتجاه عدن بقيادة المقدم سالم عبدالله المحلائي، وقد دخلت فعلا مدينة الحوطة في لحج والجنود يطلقون النار في الهواء كتعبير عن إصرارهم الدخول إلى عدن لمساندة الانتفاضة الوطنية هناك.                                                                

وعلى خط موازٍ كانت تدور أحداث أخرى مرتبطة بالحدث الرئيسي، ففي حوالي الساعة الثانية عشر ظهرا استقبل العقيد حيدر بن صالح الهبيلي، رئيس أركان جيش الاتحاد (الموقوف عن العمل)، في منزله في مدينة الاتحاد كل من: وزير الدفاع فضل بن علي العبدلي، ووزير الأمن صالح بن حسين العوذلي، ووكيل وزارة الأمن المستر ديلي، الذين أبلغوه بما آلت إليه الأوضاع وأبلغوه أنه قد صدر قرار بعودة الضباط الموقوفين إلى العمل، وأن الخبر سيذاع عبر الإذاعة، وطلبوا منه إبلاغ الضباط بذلك والتدخل لوقف حدوث المزيد من التدهور في الأوضاع، وكان ذلك فعلا ما يقلق الضباط الموقوفون خاصة وأن القوات البريطانية قد بدأت باتخاذ أوضاع وإجراءات توحي بنيتها استخدام أقصى درجات القوة لإخضاع المعسكرات والجنود المتمردين مما سيؤدي إلى سقوط الكثير من الضحايا ويلحق دمارا كبيرا.

وبالفعل اتصل الهبيلي بالعقيد عشال وشرح له الموقف واتفقا على الاتصال بكل من العقيد محمد سعيد شنظور والعقيد أحمد محمد عرب، وتوجهوا جميعا إلى معسكر النصر أولا؛ حيث تم اللقاء بجنود المعسكر بقيادة العقيد علي بن أحمد العبدلي، وطلبوا منهم الهدوء وإعادة الأسلحة إلى المستودع، وأكدوا لهم تراجع القيادة البريطانية عن قرار توقيف الضباط الأربعة. فاستجاب جميع الأفراد.

ثم توجه القادة الأربعة إلى الجانب الآخر من معسكر النصر الواقع جهة المطار حيث مواقع القوات البريطانية، وطلبوا منهم الانسحاب كذلك فنفذوا الأمر.
فور إعادة الهدوء إلى معسكر النصر توجه القادة الأربعة إلى دارسعد لمنع الكتيبة الرابعة، التي يقودها المقدم سالم عبدالله المحلائي والقادمة من معسكر العند، من دخول عدن لأن القوات البريطانية قد استعدت لمواجهتها، ومنعها من دخول عدن عند نقطة دارسعد، وهو ما يعني تعرض الكتيبة لخسائر كبيرة، وربما إبادتها على يد القوات البريطانية التي وضعت في حالة توتر قصوى بسبب الخسائر التي لحقت بها خلال الصدامات في ذلك اليوم.

وفعلا استطاع الضباط الأربعة الالتقاء بطابور الكتيبة الرابعة على الطريق عند نقطة بئر ناصر الواقعة بين دارسعد والحوطة، وهناك اجتمعوا بهم وأوضحوا لهم مخاطر الإصرار على دخول عدن في هذا الظرف، وأنه لا داعي لإعطاء القوات البريطانية المتأهبة في دارسعد ذريعة الاصطدام بالكتيبة. وقد اقتنع ضباط وجنود الكتيبة واستداروا عائدين إلى معسكرهم في العند.
وبينما الضباط الأربعة عائدون إلى منازلهم في مدينة الاتحاد، التقوا بكل من المعتمد البريطاني ووزير الدفاع ووزير الأمن على البوابة فأبلغوهم بما حدث في مدينة كريتر عن التمرد وقتل الجنود البريطانيين وإسقاط طائرة هيلوكبتر وعن مسؤولية مقاتلين مدنيين وعناصر من شرطة عدن عن ذلك، وأن قيادة الجيش البريطاني قد كلفت لواء مشاة مدعم بالمصفحات للدخول بالقوة إلى كريتر لإخراج جثث القتلى البريطانيين مهما كان الثمن ومهما كان الدمار الذي سيلحق بالمدينة.

عند ذلك قرر الضباط التوجه إلى كريتر والدخول إليها عبر طريق العقبة، وهناك قابلوا قائد اللواء البريطاني مع قواته وهم في حالة غضب شديد، فأبلغوه أنهم سيدخلون إلى كريتر لوقف إطلاق النار وسحب جثث القتلى الإنجليز، لكن عليه بالمقابل تأجيل عملية الاقتحام للمدينة حتى يتم التفاهم مع القيادة العسكرية البريطانية.
وكانت الساعة قد بلغت السادسة مساء تقريبا عندما دخلوا مدينة كريتر عبر العقبة، وبعد تجاوز قمتها وبدأوا بالنزول من الجهة الأخرى لاحظوا وجود الفدائيين بملابسهم المدنية كتف بكتف بجوار جنود المعسكر يصدون هجمات القوات البريطانية لاستعادة المدينة، وعندما تعرف عليهم الثوار حيوهم بإطلاق النار في الهواء.                                                     
فور وصولهم إلى معسكر البوليس المسلح (20 يونيو) التقى الضباط بقيادة المعسكر وعلى رأسهم العقيد عبدالهادي شهاب مدير أمن عدن، وقائد المعسكر فضل رامي، وطالبوهم بضرورة الانضباط والإسراع بتسليم القتلى الإنجليز للقوات البريطانية والذين تم وضعهم على سيارة نقل عسكرية، وسلموا إلى موقع القوات البريطانية على الطريق البحري (الخليج الأمامي) وقد تجاوزت الساعة السادسة مساء بقليل.                                                                                                 

وبموازاة هذين الخطين كان هناك خط ثالث للأحداث يتحرك بقوة وسرعة للاستفادة مما يحدث وتحقيق نصر سياسي غير مسبوق في مسيرة الثورة المسلحة في الجنوب المحتل.
فقد التحمت عناصر القطاع الفدائي المتواجدون في عدن عند اندلاع الأحداث مع إخوانهم من جنود وضباط الجيش والأمن والذين كانوا عدداً كبيراً منهم يشكلون الجزء الرئيسي لهذا القطاع إلى جانب المنخرطين من المدنيين.
لكن مساهمة القطاع الفدائي في الجبهة القومية لم تنحصر على قيادة وعناصر المجال التنظيمي في الجيش والأمن؛ بل تعداه إلى القيادة السياسية والعسكرية بأهم وأبرز رموزها.             
          
فمنذ اللحظات الأولى التحقت مجموعة من الفدائيين المتواجدين في كريتر بالمتمردين في المعسكر واشتركوا معهم في صد محاولات القوات البريطانية استعادة السيطرة على الموقف، وكان على رأس هؤلاء الشهيد عبدالنبي مدرم.
ثم تعززت المشاركة بصورة حاسمة مع وصول القائد الشهيد سالم ربيع علي المسؤول العسكري للجبهة القومية يرافقه عدد من العناصر القيادية والفدائيين، واتخذوا من مركز شرطة الإطفاء الواقع شمال معسكر البوليس المسلح مقراً لهم. وشرع سالمين فورا بالتنسيق مع المجال العسكري للمعسكر لتأمين الوضع وضمان السيطرة على المعسكر وعلى المدينة بأسرها من خلال الانتشار في المواقع المشرفة على الخليج الأمامي والطريق البحري لقطع الطريق على عودة القوات البريطانية لأن هدف المواجهة لم يعد حماية المعسكر؛ بل السيطرة على كريتر نفسها.        

لقد أحست القيادة السياسية العليا في الجبهة القومية بأهمية ما يحدث، لذلك تحرك القائد الشهيد فيصل عبد اللطيف الشعبي من منطقة المعلا إلى كريتر؛ حيث وصل إلى منزل يعرفه في كريتر وطالما زاره واجتمع فيه بعناصر قيادية ذلك هو منزل المناضل سالم محمد باهرمز والواقع ضمن المنازل المدنية المحاذية للمعسكر.
وتم إرسال من يستدعي صاحب المنزل الذي كان منشغلا بالأحداث الدائرة، فحضر على عجل ليفاجئ بوجود قائد الثورة شخصيا في منزله، وكانت الساعة حينها قد قاربت الخامسة بعد الظهر، وبعد الإحاطة السريعة بالموقف أصدر القائد فيصل عبداللطيف توجيها بضرورة عقد لقاء سريع لقيادات المجالات المتواجدة والمعنية بالأحداث لاتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على المدينة والسيطرة عليها أطول فترة ممكنة.                                                                

وهكذا دخلت القطاعات الجماهيرية والشعبية إلى الواجهة وتولت المناضلة نجوى مكاوي وعناصر القطاع الجماهيري مهمة دعم المقاتلين وتموينهم بالمياه والأغذية بعد قطع المياه عن المدينة ونقل الأسر المتواجدة قرب مواقع الاشتباكات إلى أماكن آمنة، وهي الإجراءات التي مكنت الثوار من السيطرة على مدينة كريتر لمدة (18) يوماً رغم الحصار البريطاني.                                 
أما ما حدث خلال هذه الثماني عشرة يوماً فهو بحاجة إلى دراسة خاصة ومعمقة لأنها برهنت على مدى التلاحم الذي وحد الثورة بالإرادة الشعبية التي وقفت مساندة لقوى الثورة حتى تحقق الاستقلال المجيد في الثلاثين من نوفمبر 1967م.

* باحث أول - مركز الدراسات والبحوث - عدن
المراجع:
1 - انظر سلطان ناجي، التاريخ العسكري لليمن، الفصل الثامن، ص 298 - 304.
2 - العميد عبدالله سالم العوسجي، وثائق ندوة الثورة اليمنية، الجزء الثالث، ص 65 - 67.
3 - اللواء/ حيدر بن صالح الهبيلي، المرجع السابق، ص 71 - 75.
4 - مقابلة شخصية مع العميد/ سالم محمد باهرمز.
5 - مقابلة شخصية مع المناضل/ علي محمد القفيش.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى