حامد جامع.. ضمير عدن

> نصر مبارك باغريب

> لم يسعَ للظهور أو الشهرة طوال حياته.. وعاش بفلسفة خاصة به مداميكها البساطة والزهد بمتاع الدنيا وزخرفها ونفاقها. رغم ما يمتلكه من ملكات الإبداع والتميز الإنساني بمجتمعه التي تجعله يفتخر بنفسه، ويزهو بما يختزله بعقله.

غادر حامد جامع دنيانا يوم الإثنين بصمت، بعيداً عن الضجيج والأضواء كما أحب، وحمل بسطاء الناس جثمانه الطاهر إلى مثواه دون أن يرافقه أو يعزي بوفاته أي مسؤول أو شخصية بارزة.

نعم.. سنسمع غداً أو بعد غد أن المسؤول الفلاني أو المناضل العلاني أو الشخصية الفلتاني قد بعث ببرقية عزاء عبر وسائل الإعلام لأهله وذويه كنوع من النفاق الاجتماعي تجاه شخصية فريدة أحب بسطاء الناس بعدن فأحبوه، وكان واحداً منهم.

حامد جامع هو تجسيد نيّر للإرث المدني والثقافي والاجتماعي العدني، ولد ونشأ ومات بعدن وامتزج كيانه بالمدينة وناسها وثقافتها وشخوصها. طبعت عدن حبها في فؤاده، والتصق بها التصاق الطفل بأمه المثخنة بالجروح والطعنات والغدر.

غاص حامد جامع في أغوار عدن وفهمته وفهمها ولم يجد مناصاً من التماهي معها بعشق راقٍ لا انفصام عنه. إنه العدني المنتمي إلى عدن المدنية وليس إلى القبيلة أو الطائفة أو المنطقة.

أحب مدينته وأمه عدن وأحبته، تثقّف بمدارسها ومكتباتها ومنابر الثقافة والأدب والصحافة والسياسة فيها. كان مثقفاً حقيقياً يحمل قضية إنسانية كبيرة ومبدأً صادقاً لا يتزحزح. كان نقياً حد الصفاء وبريئاً حد الطفولة بأفق وفكر لامس السماء.

امتشق حامد جامع القلم والكتاب وبهما أنار طريقه وسار بدرب حياته. قرأ كثيراً بشتى صنوف المعرفة، وكتب عن قضايا الفكر والثقافة والأدب والسياسة والصحافة. وترجم الكثير من الكتابات والمؤلفات من اللغة الإنجليزية إلى العربية، وكان الدينامو الثقافي المعد والكاتب لعدد من أهم المجلات والصحف الرصينة التي صدرت بعدن وغيرها.

كانت قناعات (جامع) صلبة ثابتة لم تؤثر عليها عاديات الزمن وتقلباته ومغرياته وإحباطاته. امتلك عزة وعفة في النفس قلّما نجدها كثيراً الآن بين أوساط الكثير من المتثاقفين.

لم ينحنِ أبداً، عاش طوداً منتصباً، ومات عزيزاً شامخاً، لم يستجد أمام مكاتب المسؤولين أو المناضلين القداماء أو الجدد كما فعل العديد من أشباه المثقفين والسياسيين، كان يعاني من شظف العيش وضيق ذات اليد لكنه لم يشكُ حاله لأحد.. كابد قهر المرض ولم يصرح لأحد بما يعانيه وما يحتاجه.. زهد عن الزواج وإنجاب الأبناء حتى لا يعانوا معه من ألم الحياة وزيفها في مجتمع اجتاحته القسوة والنفاق حد القرف.

كنت ألتقيه باستمرار مبتسماً لي كلما رآني أحييه. أراه متأملاً في مجريات الواقع المتهاوي وهو جالس على كرسيه مقابلاً مقر حزب التجمع (حزب عمر الجاوي) أو على عتبة الباب المقفل لسينما هريكن بمديرية كريتر بعدن بمعية ثلة من المثقفين الكبار الذين يشبهونه بشيء من صفات العفة والبساطة والفكر الحضاري، وكروتين شبه يومي كنت أتوقف لهُنية عندما أشاهده قاعداً بمكانه الأثير كل مساء ونتبادل حديثاً مقتضباً عن حال البلاد والعباد، ثم أفارقه على أمل اللقاء بيوم آخر.

ولعل أجزل مرحلة تجاذبت معه الحديث والأفكار كانت تلك الأيام العصيبة التي عشناها أثناء حصار عصابات الحوثي لمدينة كريتر بعدن عام 2015م، وتحدث معي بحكمة المثقف وابن عدن المدرك لأسرار التاريخ وطبائع سكان هذه المدينة، قال لي إن عدن ستلفظهم كما لفظت غيرهم.. قال لي إن هذه المدينة لا تقبل إلا بهاء النهار، مدينة وجدت لتقاوم التخلف وتاريخها شاهد عليها، ولن تستطيع أي قوى أن تدمر مدنيتها. نعم.. قد تواجه انتكاسه وكبوة ورياحاً عاتية، ولكنها ستنهض مجدداً ولو بعد حين.

كان يقدم لنا جرعاً مهمة من الأمل والمعنويات التي خففت من جزعنا على مستقبل المدينة جراء الهمجية والتخلف المريع الذي تتعرض له. ظهر أمامنا واثقاً وهو يؤكد لنا أن عدن لا يمكن أن ترضخ للهمجية والجهل، إنها مدينة المدنية والنور حتى وإن خفت ضوؤها وكاد أن ينطفئ لبرهة من الزمن.

ظلت كلماته تترد بمسامعي إثر دحر عصابات الحوثي عن عدن وانتصار أبنائها على جحافل الظلام، ولازالت كلماته عالقة بذهني إلى اليوم، أن عدن ستزيل كل أدران الهمجية والتخلف ولو بعد حين. إنها مدينة مدنية، فهي لا تستطيع أن تكون إلا عدن بكل ما يحمله هذا الاسم من عمق مدني فلسفي منفتح وأصيل.

رحمة الله عليك أستاذنا وصديقنا المفكر والأديب والمثقف الكبير/ حامد جامع، وأسكنك الله برحمته ومغفرته فسيح جناته، وألهمنا وكل محبيك الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى