"أزورُكَ أمْ تزورُ؟" شاعرات الأندلس تطاردن الحبيب بغزل ماجن وعفيف 2-2

> محمد حسين الشيخ

> ولّادة بنت المستكفي
كانت ولّادة بنت المستكفي (994م - 1091)، ابنة الخليفة الأموي المستكفي بالله من أعلام الغزل النسائي الأندلسي. ارتبطت بالوزير والشاعر ابن زيدون، وكانت جميلة فوصفها ابن زيدون قائلاً: صاغها الله من فضّة خالصة، وتوّج رأسها بشعر كالتبر اصفرارا، وهي بديعة مهوى القرط، ممشوقة القوام، بارزة الصدر، دقيقة الخصر، رقيقة البشرة، فاتنة العينين. بحسب ما ينقل حمدان حجاجي في كتابه "محاضرات في الشعر الأندلسي".

ويقول عنها ابن بسام الشنتريني في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة": "وكانت من نساء أهل زمانها واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، و حسن منظور ومخبر، وحلاوة مورد و مصدر".
ويضيف: "كان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يغشوا أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها".

ولولّادة باعٌ في الغزل إذ تقول لابن زيدون:
ترقّب إذا جنّ الظلام زيارتي ** فإنّي رأيت الليل أكتم للسرِّ
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح ** وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
وفي البيتين جرأة، فولادة ستذهب إلى ابن زيدون في بيته، ليلاً، في أوّل لقاء بينهما، وستذهب له كعاشقة لا كشاعرة شهيرة.
كانت ولًادة وابن زيدون يقضيان أوقات عامرة بالرومانسية، وفي نهاية موعد من هذه المواعيد، قالت في ليونة ورقة:
ودّعَ الصبـرَ محبٌّ ودّعَـكْ ** ذائعٌ منْ سرّهِ ما استودَعَكْ
يقرَعُ السّنَّ على أنْ لمْ يكنْ ** زَادَ في تِلْكَ الخُطَى، إذْ شَيّعَكْ
يا أخا البـدرِ سناءً وسـناً ** حفظَ اللهُ زماناً أطلعَكْ
إنْ يَطُلْ، بَعْدَكَ، لَيلي، فلَكَمْ ** كنت أشكُو قِصَرَ اللّيْلِ مَعَكْ
ويبدو أن الشوق طال بينها وبين حبيبها في مرة، فقالت:
ألا هَل لنا من بعد هذا التفرّق ** سبيلٌ فيشكو كلّ صبّ بما لقي
وَقد كنت أوقات التزاورِ في الشتا ** أبيتُ على جمرٍ من الشوق محرقِ
فَكيفَ وقد أمسيت في حال قطعة ** لَقد عجّل المقدور ما كنت أتّقي
تمرُّ الليالي لا أرى البين ينقضي ** وَلا الصبر من رقّ التشوّق معتقي
سَقى اللَه أرضاً قد غدت لك منزلاً ** بكلّ سكوب هاطل الوبل مغدقِ
وقد تخطّت ولّادة بهذه الأبيات مفهوماً قديماً، إذ عادة يكون التوسّل من الرجل والتذلّل من شيم المرأة، ولكن ولّادة تجاوزت ذلك، وتوسّلت من حبيبها فرصة تتيح لها أن تشكو همّها، إذ لم تعد تقوى على الصبر.
وتبعد ولادة عن نفسها شبهة معاشرة ابن زيدون جنسياً، فتقول:
إني وإن نظـر الأنام لبهجتي ** كظباء مكة صيدهنّ حرام
يحسبن من لين الكلام فواحشاً ** ويصدّهن عن الخنا الإسلام
إلا أن خلافاً وقع بين ولادة وابن زيدون، فرفضت أن تعود ولّادة إليه، رغم توسّلاته لها، والتي أدّت إلى كتابته لقصيدته الشهيرة النونية.

نزهون بنت القلاعي الغرناطية
هي ليست أميرة كولّادة وأيضاً ليست بجارية، بل كانت من الأناس العاديين، عاشت بغرناطة في القرن الثاني عشر الميلادي (عصر المرابطين)، ووصفها ابن الأبار، في كتابه "التكملة لكتاب الصلة"، بأنها: "كانت صاحبة فكاهة ودعابة وكانت ماجنة".
أحبها الوزير أبو بكر بن سعيد وشغف بمراسلتها، وقاده غرامه وغيرته من كثرة صداقاتها بالرجال، إلى أن يكتب لها معاتباً:
يا من له ألف خلّ ** من عاشق وصديق
أراك خليت للناس ** منزلاً في الطريق
فردّت عليه بشعر يؤكّد مكانته في قلبها:
حـللت أَبا بكرٍ محلّاً منعتهُ ** سِواك وهل غير الحبيبِ له صدري
وَإِن كان لي كم من حبيبٍ فإنّما ** يقدّم أهل الحقّ حبّ أبي بكرِ
ويتجلى إبداع نزهون هنا اتخاذها التاريخ الإسلامي مجالاً لتصوير شعورها، عن تخييرها لحبيبها عن الجميع، فلفظة أبي بكر تنصرف إلى صاحب النبي محمد المفضّل، وفقا للاعتقاد السنّي، كما تنصرف إلى الوزير في نفس الوقت.
وتزداد جرأة نزهون عندما تتغنّى بمباهج الحبيب، وتصف ليلة قضتها معه، مستخدمة أسلوب التصغير للتحبيب وإبراز الجمال، حيث غفلت عين الرقيب وسهت.. فتقول:
لله درُّ اللّيالي ما أُحيسنها ** وما أُحيسن منها ليلةَ الأحَدِ
ويبدو في المقطوعة أن نزهون تحكي هنا حكاية وقعت، وتصف فيها ليلة الأحد كأجمل ليلة، لأنها جمعتها بمن تحب، ويبرز أيضاً في الشعر حب نزهون للطبيعة، كما هو شائع في الشعر الأندلسي.

عشق أم الكرام وأنس القلوب يتجاوز الطبقات الاجتماعية
القصّة الأولى لأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، (القرن الحادي عشر الميلادي) ابنة ملك ألمرية. قال عنها الأديب أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وقالت فيه الموشحات، بحسب كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" للسيوطي.
وكان والدها و3 من إخوتها شعراء مشهورين. ومن شعرها في السمار، ذاك الفتى الذي لم يكن يليق بها اجتماعياً، كونها أميرة وهو من العامّة، بل من العاملين لدى والدها:
يا معشرَ النَاسِ أَلاَ فاعجبوا ** مِمَّا جَنَتْهُ لوعَةُ الحُبِّ
لولاهُ لم ينزلَّ ببدرِ الدُجَى ** من أفْقِهِ العلوي للتُّرْبِ
حَسْبي بمن أهواهُ لو أنَّه **  فارَقَني تابَعَهُ قلبي
نلاحظ هنا أن الأميرة لم تقوَ على ممانعة الحب، ولم تصبر على اللوعة والاشتياق له، فقلبها رفض كل شيء إلا الحب، ولعل هذا ما دفعها للقول:
أَلا ليتَ شِعري هل سبيل لخلوةٍ ** ينزّه عنها سمع كلّ مراقبِ
وَيا عجباً أشتاقُ خلوة من غدا ** وَمثواهُ ما بين الحشا والترائبِ
تصرخ أم الكرام طالبة الخلوة بحبيبها. ومن يكون هذا الحبيب؟ إنه فتى من فتيان قصر أبيها! وبقدر ما يحمل البيتان من جرأة بقدر ما يحملان أيضاً صناعة فنيّة دقيقة، فقد كان لأم الكرام يد طولى في فن التوشيح، بحسب كتاب "الشعر النسوي في الأندلس" لمحمد المنتصر الريسوزي.
ومن الاتجاه الآخر، وفي القرن العاشر الميلادي، عشقت الجارية أنس القلوب جارية المنصور بن أبي عامر (الحاكم الفعلي للخلافة الأموية في عهد هشام المؤيد بالله)، الوزير الكاتب بن أبي المغيرة بن حزم.
ونذكر كيف كانت هي والوزير يبعثان برسائل الحبّ الشعريّة أمام المنصور، بطريقة مشفّرة، يفهمانها هما فقط؛ حيث تغنّت أنس القلوب في حضرة الوزير وبن أبي عامر، وقالت:
قدمَ الليلُ عند سيرِ النهار ** وَبدا البدرُ مثل نصفِ سِوَارِ
فكأنّ النهار صفحة خدّ ** وكأنَّ الظلام خطّ عذارِ
وكـأنَّ الكؤوسَ جامد ماء ** وكأنّ المدام ذائب نارِ
نَظري قد جنى عليَّ ذنوباً ** كيف ممّا جنَته عيني اِعتذاري
يا لقومي تعجّبوا من غزالٍ ** جائر في محبّتي وهو جاري
ليت لو كان لي إليهِ سبيل ** فأقضّي من حبّه أوطاري
فلما أكملت غناءها السلس المتأثر بالطبيعة ردّ عليها ابن المغيرة، وكان قد تفاعل معها:
كيف كيفَ الوصولُ للأقمار ** بين سُمْر القنا وبيضِ الشفارِ؟
لو علمنا بأن حبَّكَ حـقٌّ **  لطلبنا الحياة مِنكَ بثـارِ
وإذا ما الكرامُ همُّوا بشيءٍ ** خاطروا بالنفوسِ في الأخطارِ
ويكشف هذا الحوار الغزلي عن اختلاف طبيعة الغزل لديهما؛ فأنس القلوب بعثت رسالتها الغزلية رمزاً - ربما خوفاً من سيّدها - وظلّ ما تتمنّاه مرتبطاً بأداة التمني "ليت": ليت لو كان إليه سبيل فأقضي من حبه أوطاري.
أما لوحة ابن المغيرة الغزلية، فارتبطت بالشجاعة والإقدام في سبيلها، حتى ولو لم يسمها، وقد يرجع اختلاف أسلوبهما إلى الظروف الاجتماعيّة المحيطة بكل منهما، فهي جارية وهو وزير.
شاعرات أخريات المقام هنا يتسع لذكر الكثيرات، ومنهن حفصة بنت حمدون الجحارية (القرن العاشر الميلادي)، التي قالت:
يا وحشَتي لأحبّتي ** يا وحشة مُتماديَه
يا ليلة ودّعـتـهم ** يا ليلة هيَ ما هيَه
وفي البيتين لا تكتفي حفصة بالغزل العفيف، بل تتذكّر لقائها بحبيبها ليلاً، وتتشوّق لهذا الحبيب، حتى وإن تحدثت بصيغة الجمع عن هذا الحبيب.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى