فرس المتوكل.. وشعر البحتري (قصة قصيدة)

> محمد حسين الدباء

> يقال إن الخليفة العباسي العاشر أبا الفضل جعفر المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد كان يعشق الشعر والشعراء وكانت له فيها قصص وطرف وقد تناولنا في عدد سابق قصته في هذا العمود وسنذكرها بشكل مختصر -قبل أن نذكر قصته مع البحتري- قيل إن علي ابن الجهم وقف لأول مرة بين يدي المتوكل، مادحًا، فلم تسعفه قريحته بأجمل من هذا الكلام يقوله للخليفة:
أنت كالكلب في حفاظك للود *** و كالتيس في قراع الخطوبِ
أنت كالدلو، لا عدمناك دلوًا *** من كبار الدلا، كبيرَ الذنوبِ

يدهش الحاضرون في مجلس الخليفة من هذا الشاعر الذي يمدح الخليفة بأنه كالكلب في حفظه الود، وكالتيس في مواجهة المصاعب والأخطار، وكالدلو الذي يحمل الماء ويجلبها، لكن الخليفة المتوكل لا يغضب، ولا تصيبه الدهشة، وإنما يدرك بلاغة الشاعر ونبل مقصده وخشونة لفظه وتعبيره، وأنه لملازمته البادية، فقد أتى بهذه التشبيهات والصور والتراكيب.. ثم هو يأمر للشاعر بدار جميلةٍ على شاطئ دجلة، بحيث يخرج الشاعر إلى محال بغداد يُـطالع الناس ومظاهر مدينتهم وحضارتهم وترفهم.

يُـقيم الشاعر "علي ابن الجهم" مدة من الزمن على هذه الحال، والعلماء يتعهدون مجالسته ومحاضراته، ثم يستدعيه الخليفة وينشده الشاعر قصيدة جديدة... فتكون المفاجأة... قصيدة من أرقّ الشعر وأعذبه... يقول مطلعها:
عيون المها بين الرُّصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
إلى أن قال:
خليليَّ، ما أحلى الهوى، وأمـرَّهُ *** وأعرفني بالحلو منه وبالمُر
بما بيننا من حُرمةٍ هل علمتما *** أرقَّ من الشكوى، وأقسى من الهجرِ
وأفضح من عين المُحب لسِـرّهِ *** ولاسيما إن أطلقت عَبرةً تجري
يقول المتوكل: انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.

بدأت علاقة البحتري بالخليفة المتوكل عندما بويع حيث أمر بإظهار السنة، والقضاء على مظاهر الفتنة التي نشأت عن القول بخلق القرآن، وكتب إلى كل أقاليم الدولة بهذا المعنى، كما استقدم المحدِّثين والعلماء إلى مدينة سامراء وطلب منهم أن يحدثوا بحديث أهل السنة لمحو كل أثر للقول بخَلْق القرآن. وقد مدحه البحتري لما أظهر السنة، فقال:
أمير المؤمنين لقد شكرنا *** إلى آبائك الغر الحسان
رددت الدين فذا بعد أن قد *** أراه فرقتين تخاصمان
قصمت الظالمين بكل أرض *** فأضحى الظلم مجهول المكان
وفي سنة رمت متجبريهم *** على قدر بداهية عيان

وفي يوم من أيام أهدى الخليفة المتوكل الشاعر البحتري فَرَسًا، فمات الفرس في اليوم نفسه، فأنشدَ البحتري مخاطبًا المتوكل:
أهديتَني أُعجوبةً *** بين الخلائقِ نادرةْ
فرسًا كأنّ هبوبَها *** مثلُ الرياحِ الطائرةْ
في ليلةٍ قَطَعَ المسافةَ *** من هنا للآخرةْ !
فلما سمع الخليفة المتوكل شعره هذا أعجب به وأهداه فرسا غيرها.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى