عندما بكى الأمير

> ذات ليلة كنت في مجلس مثمر يناقش أموراً شتى، وكان مما عرض فيه الحديث عن واقع الأمة المزري، وأين هي من ماضيها المجيد، وكيف انحطت وتقهقرت بعد أن كانت في صدارة الأمم وبلغت من المجد شأواً عظيماً، وطوف شبابها في دروب المعالي وارتقوا في أيما سبيل، وكان أن تشارك الجلساء في إيراد بكائية الدهر التي تردد صباح مساء شاهدة على ملك ضاع وزوال ممالك ما حملت من الملك إلا اللقب، كما قال ابن خفاجة:
ألقاب مملكة في غير موضعها
      كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

كانت نونية أبي البقاء الرندي ولا زالت شاهدة على زوال هذا النوع من الممالك، ومعزية لأمتنا في مصابها الجلل:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
     فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
     من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
     ولا يدوم على حال لها شان

فعقب آخر ببكائية أخرى نسجت على نفس المنوال:
لولا دمشق لما كانت طليطلة
     ولا زهت ببني العباس بغدان

فطرقت هذه الكلمات قلبي قبل أسماعي وأسرعت باحثاً عن هذا الكنز، ولحسن الحظ وجدت ضالتي سريعاً؛ فبمجرد البحث في متصفح البحث الشهير "جوجل"، وجدت هذه البكائية لأحد أروع شعراء العربية في العصر الحديث، إنها لأمير الشعراء أحمد شوقي، وبكى فيها حاضرة إسلامية لا تزال مثخنة بالجراح ليومنا هذا إنها (دمشق)، وكان مما قال فيها:
لولا دمشق لما كانت طليطلة
        ولا زهت ببني العباس بغدان
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب مروان؟
تغير المسجد المحزون واختلفت
         على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته
           إذا تعالى ولا الآذان آذان.

ولم يقتصر الأمير في بكائه على هذه المرثية؛ فله غيرها لتتعدد بكائياته كما تعددت الكروب والمآسي النازلة بحاضرة الخلافة ومنارة العلوم؛ فكانت بكائياته تنبه جموع المخاطبين لجلال الخطب وفداحة الأمر، كيف لا وهي تندب القاعدة التي انطلقت منها جيوش العزة لنصرة المسلمين وتمكين الإسلام؟ فانقلب الحال وإذا بتقلبات الأيام تجعل الأعزاء أذلة يخطبون ود اللئام ملتمسين الشفقة ممن لم توجد فيه النخوة وهاهم الأعزاء الكرام يعانون أيما معاناة بعدما تداعى عليهم الأعداء كما تداعت الأكلة على قصعتها، فكان إن بكاها الأمير عندما رأها بل رأى سوريا بأكملها ترزح تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، فكيف سيبكي وماذا سيقول لو عاش بيننا ورأى الدمار الذي لم يسلم منه بشر ولا مدر وطال الكبير والصغير، وكيف سيرثي معالم التاريخ التي دكت بل سوريا التاريخ والحضارة والأرض والإنسان التي دمرت بعد إن تعددت جبهات الشر وتكالب الأعداء عليها وأضحت أرضا محروقة وصارت مدنها أرض أشباح، كل ذلك بعدما اتفق الغزاة على هدف واحد أوحد ألا وهو (تدمير سوريا)؛ فلم تعد جبهة العدوان واحدة؛ ليسهل التعامل معها كالتي حددها شوقي في قوله:
دم الثوار تعرفه فرنسا
        وتعلم أنه نور وحق.

ولكن انقلبت الأمور وإذا بالضحية وحيدة بين عدة جزارين تقطر سكاكينهم دما، ويسيل لهعابهم لجزر الأبرياء، وهكذا تعددت جبهات العدوان وتعددت معها صنوف العذاب وألوان الإرهاب وصارت سوريا (حقل تجارب كبير) يتفرج المتابعون على نتائج الباحثين فيه منذ اندلاع المظاهرات إبان ما سمي بـ "الربيع العربي" في مدينة درعا يوم 2011/03/18م، وتطورت الأحداث لتأخذ أبعاداً أخرى بعدما اشتعلت نيران الحرب بعد مدة من التظاهر السلمي، وحضر ما بكى منه الأمير بالأمس؛ فعندما رأى معالم التاريخ تدك والحضارة تذهب في خبر كان، قال بكائيته التي ستظل شاهدة على انكسار شام العزة والكرامة، فكان أن استخدم صيغة التمريض (قيل) ليدلل على عدم تصديقه للأخبار التي حملت الفجائع مجملة حينا ومفصلة أحيانا أخرى، فقال مبهوتا عندما سمع ما لا يطرب لسماعه:
لحاها الله أنباء توالت
      على سمع الولي بما يشق
يفصلها إلى الدنيا بريد
       ويجملها إلى الآفاق برق
وقيل معالم التاريخ دكت
     وقيل أصابها تلف وحرق.

فماذا ستقول يا أمير شعراء العربية لو رأيت المساجد المدمرة والآثار المحطمة والقرى التي تحولت لمدائن أشباح، كم ستبكي؟ وكم ستندب؟ وكم سترثي؟ وماذا ستقول عندما ترى الدمار قد لحق بالمسجد المحزون (أي المسجد الأموي ) الذي قلت فيه يوما:
وقفت للمسجد المحزون أسأله
      هل في المصلى أو المحراب مروان.

وماذا ستقول عندما ترى بأم عينك صلف المجرمين وجزر المعتدين وأنت الذي قلت يوما:
وللمستعمرين - وإن ألانوا
           قلوب كالحجارة لا ترق.

فهم كما وصفتهم عديمو الإحساس لم تعرف الرحمة طريقا تلج به إلى قلوبهم التي تتلذذ بإبادة الحرث وإهلاك النسل، وهذا هو دأب الطغاة الجبناء الذين تخلوا عن معاني الإنسانية وتجردوا مما يمت لها بصلة.
لكن لا يفتأ الأمير في أن يبث روح العزة وإذكاء قيم الكرامة؛ فتجده يقول:
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
       إذا الأحرار لم يسقوا ويسقوا.

ولا يفوته أن يعزي الأمة بفقد هؤلاء الأبطال؛ فهي تضحية قوم ليعيش آخرون ولن تذهب تضحياتهم هدراً؛ بل عواقبها حميدة تستحق الثمن لكن لا يفتأ الأمير في أن يبث روح العزة وإذكاء قيم الكرامة؛ فتجده يقول:
ففي القتلى لأجيال حياة
     وفي الأسرى فدى لهم وعتق.

وأنى يتأتى ذلك إلا بعظيم البذل فالحرية صرح لن يدرك إلا بكثير الدماء المسكوبة:
وللحرية الحمراء باب
          بكل يد مضرجة يدق.
وهاهو الشعب السوري اليوم يدفع ثمن بحثه عن حريته ورغم ما صارت إليه الأمور لكنه يظل يبحث عن حريته التي كانت وتظل وستظل صرحا يطمح للوصول إليه، وهاهي الأيادي المخضبة بالدماء تحاول قرع بابه غير آبهة بصلف الجزار الذي يستطيع الوقوف أمام صمود دمشق الحضارة وإباء حلب الشهباء وشموخ حمص العزة وعلياء درعا الأبية وعزة أعزاز الشامخة ولئن حالت الظروف اليوم دون ارتفاع راية الحق فحتما سينكسر الباطل غدا وتخفق راية الحق في العلياء بكل فخر وإباء وان غدا لناظره لقريب.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى