عن الحكم الدستوري بإلغاء استفتاء كتالونيا (2-2)

> القاضي د. محمد جعفر قاسم

> رأي المدعي العام الإسباني واجتهاد المحكمة الدستورية حول السلامة الإقليمية وتقرير المصير والانفصال
استغرب المدعي العام الإسباني النص الذي أورده القانون الكاتالوني حول تقرير المصير الذي اعتبره كأول حق من حقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يعكس في رأيه تبني القانون الكتالوني وربطه بما أورده القانون الدولي والعهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية من نصوص حول حق تقرير المصير.
وقد رأت المحكمة الدستورية الإسبانية أنه لا يمكن الاستنباط من أحكام كل من القانون الدولي ما يفيد أخذهما به.

وفي رأينا أنه لا يوجد ما يبرر استغراب المدعي العام، لأن النص على تقرير المصير في ميثاق الأمم المتحدة والعهدين الدوليين للحقوق قد جاء مطلقا، ونص على أنه تمتع به كافة شعوب العالم وليس فقط الشعوب المستعمرة. كما لا يوجد وجه حق في استغربه لموقف القانون الكتالوني الذي يصف حق تقرير المصير كأول حق من حقوق الإنسان، لأن هذا هو ما ينص عليه فعلا ميثاق الأمم المتحدة والعهدان الدوليان حول الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل وتصدر ذلك الحق كافة مواد الميثاق والعهدان المذكوران.

ورأى المدعي العام أن القانون الدستوري المقارن يخلو من نصوص تجيز حق الانفصال باستثناء موقف الدستور الإثيوبي ودستور سانت كيتس ونيفيس اللذان ينصان عليه صراحة.

كما أشار إلى أن موقف النظام الدستوري الكندي حول تقرير المصير والانفصال قد جعلهما في موقف لا يتوافق مع ما كانت تنص عليه بعض دساتير الكتلة الاشتراكية في الماضي من الأخذ الواضح بمبدأ تقرير المصير والانفصال. كما أشار إلى أن النظام الدستوري لبعض الدول الفيدرالية التي توجد بها درجة كبيرة من اللامركزية الإقليمية قد حرّمت أي طموح نحو الانفصال. وفي هذا الصدد أشار إلى اجتهاد المحاكم العليا لبعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وألمانيا وإيطاليا وجنوب أفريقيا التي لا تقر بحق تقرير المصير للحركات المنادية به في بلدانها. وفي هذا الصدد أشار إلى موقف القضاء الأمريكي بالقرار الذي أصدرته المحكمة العليا الأمريكية في 20 أغسطس 1898 في قضية US v White الذي قررت فيه الأخذ بمبدأ الانفصال فقط في حالة إدخال تعديل دستوري على نصوص الدستور الأمريكي.

ومن ناحيتها ذكرت المحكمة الدستورية الإسبانية أن إسبانيا بحثت مسألة تقرير المصير عندما أجريت المناقشات التأسيسية للدستور وفي أعقابها تم رفض الأخذ بها والنص عليها قي الدستور الإسباني بأغلبية كاسحة.

وحول موقف القانون الدولي من الأخذ بحق تقرير المصير في الدول الديموقراطية، أوردت تلك المحكمة أن القانون الكتالوني يشير إلى المادتين 1 - 2 و96 من الدستور الإسباني. وفي هذا الصدد تشير كتالونيا إلى أن انضمام إسبانيا الى العهدين الدوليين المذكورين اللذين ينصان على حق تقرير المصير قد أعطى المشروعية للمطالبة بحق كتالونيا بإجراء الاستفتاء حول استقلالها، لأن هذا الانضمام قد جعل نصوص العهدين الدوليين المذكورين جزءاً من التشريع الإسباني الساري المفعول.

وفي هذا الصدد رأت المحكمة الدستورية الإسبانية ان القانون الدولي لا يتبنى في الحقيقة حق تقرير المصير في الدول ذات النظام الدستوري الديموقراطي كما هو حال إسبانيا التي تحترم المساواة وحكم القانون. وخلصت إلى القول بأنه لا يوجد أي أساس للزعم بأن القانون الدولي يقر بحق الانفصال. كما أن مخالفته لما ينص عليه القانون الداخلي تشكل في حد ذاتها مخالفة للقانون الدولي.

ورأت المحكمة أن المبدأ الثابت للقانون الدولي المعاصر في هذا الشأن هو مبدأ السلامة الإقليمية لحدود الدول حسبما تم التعبير عنه في عدد من الوثائق الدولية، كتصريح الجمعية العامة للأمم المتحدة المتبلور في القرار رقم 50/6 الذي اتخذ في 9 نوفمبر 1995 في الفقرة الثالثة منه التي تنص "على أن لا شيء مما ذكر أعلاه يمكن أن يفسر بأنه يخوّل أو يشجع القيام بأي عمل من شأنه تفكيك أو الإضرار بالسلامة الإقليمية أو الوحدة السياسية للدولة المستقلة"، وكقرار الجمعية العامة المتخذ في 27 مارس 2014 حول السلامة الإقليمية لأوكرانيا الذي ينص على عدم نفاذ الاستفتاء الذي أجرته جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي، وكذا سيفستابول في السادس عشر مارس من العام ذاته.

كما رأى المدعي العام الإسباني أن تقرير المصير المنصوص عليه في العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفي إعلان مبادئ القانون الدولي للجمعية العامة للأم المتحدة رقم 2625 الصادر في 24 أكتوبر 1970 لا تنطبق على حالة كاتالونيا، لأن هاتين الوثيقتين تخصان سكان الدول التي تخضع للوصاية الدولية أو التي ترزح تحت الحكم الأجنبي، بدليل أن الكلمات المستخدمة فيها تتطابق مع الكلمات المستخدمة في القرار رقم 1514 (15) المتخذ في ديسمبر عام 1960 المعروف بقرار تصفية الاستعمار.

ملاحظات
ملاحظاتنا الموجزة على قرار المحكمة الإسبانية ورأي المدعي العام الإسباني من حيث الموضوع مع مقارنته باجتهاد المحكمة العليا الكندية ومحكمة العدل الدولية والممارسة البريطانية..

من الواضح أن الدعي العام الإسباني والمحكمة الدستورية الإسبانية يتبنيان مبدأ السلامة الإقليمية ووحدة أراضي الدولة، ويحاولان بصورة متعسفة مد نطاق تطبيقه من ميدان علاقات الدولة الخارجية مع بقية دول العالم إلى علاقاتها الداخلية مع الحركات التي تطالب بتقرير المصير وبالانفصال، رغم أن هذا الموقف غير متفق عليه في الفقه والقانون والقضاء الدوليين والقضاء الوطني المقارن.

وقد سبق لنا وأن ذكرنا أن القانون الدولي كما هو منصوص عليه في المادة العاشرة من ميثاق عصبة الأمم يحصر ويقصر تطبيق مبدأ السلامة الإقليمية على العلاقات الخارجية بين الدول. كما أشرنا سابقاً إلى أن ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 والعهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وكذا الإعلانات والقرارات الدولية التي أشارت لها المحكمة الإسبانية تنص جميعها على المبدأين معاً، الأمر الذي أدى إلى عدم وجود تفسير موحد لهما على صعيد الفكر والقانون والقضاء الدوليين وعلى صعيد القضاء الوطني، كما هو مجسد في اجتهاد كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة العليا الكندية والمحكمة الدستورية الإسبانية.

ويعود السبب في هذا التباين والاختلاف إلى ظهور المعسكرين الاشتراكي والغربي في عام 1945 وصراعهما فيما بعد في رحى الحرب الباردة التي نشبت بينهما. فبينما كانت بعض الدول الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا تصر على إدخال مبدأ السلامة الإقليمية في ميثاق الأمم المتحدة وفي الوثائق الدولية الأخرى للحفاظ على مستعمراتها، نجد أن الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي تتبنى حق تقرير المصير انطلاقا من موقفها المنادي بحرية الشعوب ومن أجل تضييق الهيمنة العالمية للمعسكر الغربي.

ومن ناحية أخرى نلاحظ أن المدعي العام والمحكمة الدستورية الإسبانيين ينكران وجود حق تقرير المصير والانفصال فيما يتعلق بكتالونيا، بينما نجد المحكمة العليا الكندية في رأيها الاستشاري حول قضية انفصال كيوبيك تقر بوجود حق تقرير المصير في القانون الدولي وفي النظام الدستوري الكندي.

وبالنسبة للحق في الانفصال فترى المحكمة العليا الكندية أن القانون الدولي لا يقره كما لا يمنعه في نفس الوقت، أي أنه يتخذ موقفاً محايداً منه. أما النظام الدستوري الكندي فيقر بحق الانفصال ويعترف به من حيث المبدأ، إلا أنه يشترط لتنفيذه إجراء مفاوضات حوله بين حكومات كل من الإقليم المطالب بالانفصال والاتحاد الكندي والأقاليم الأخرى، وذلك لصيانة حقوق هذه الحكومات ومواطنيهم والمحافظة عليها.

وأجد أن محكمة العدل الدولية تتبنى رأي المحكمة العليا الكندية الذي ينادي بحياد القانون الدولي تجاه مسألة الانفصال، فلا هو يقره ولا هو يمنعه في نفس الوقت، ذلك لأنها تجنبت الخوض في موضوع تقرير المصير لاختلاف مواقف الدول التي أدلت برأيها حوله إلى المحكمة، لكون موضوع حق تقرير المصير يخرج عن نطاق السؤال المعروض على المحكمة، الذي يتلخص بطلب الجمعية العامة للأمم المتحدة منها إبداء رأيها فقط في مسألة مدى توافق إعلان كوسوفو استقلالها مع القانون الدولي، وإن كانت هذه المحكمة الدولية تشير إلى أن موقف القانون الدولي هذا يسير في طريق التطور للإقرار بحق الانفصال.

ومن جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أن المحكمة العليا الكندية ترى أن المبادرة المنفردة لأحد الأقاليم بالانفصال تكتسب مشروعية وتلزم بقية الأقاليم والحكومة الاتحادية في إجراء المفاوضات التي ذكرناها أعلاه. ومن جهتها نجد محكمة العدل الدولية تقر بأن القانون الدولي لا يمنع حق مؤسسات الحكم الذاتي في كوسوفو المنفرد بإعلان الاستقلال ورفضت في هذه الحالة أن تأخذ بمبدأ السلامة الإقليمية لحدود الدولة.

كما نلاحظ صدى وتأثير الرأي الاستشاري للمحكمة العليا الكندية على الصعيد العالمي الذي تجسد بأخذ المملكة المتحدة بمبدأ تقرير المصير، تجلى بتطبيقها مبدأ الاستفتاء لتقرير خروجها من الاتحاد الأوربي الذي يخالف القواعد الدستورية البريطانية حول سيادة البرلمان.

وقد حدى ذلك بالقضاء البريطاني إلى إصدار حكم تاريخي لأول مرة منذ عدد من القرون قضى بأن استفتاء الخروج من الاتحاد الأوربي له أثر استشاري محض ولا يتمتع بالقوة القانونية بموجب القواعد الدستورية البريطانية لمبدأ سيادة البرلمان، وهو الأمر الذي حدى بالحكومة البريطانية إلى إصدار قانون خاص يقضي بمنح سكان اسكتلندا الحق بتقرير بقائهم في إطار المملكة المتحدة أو الخروج عنها بتكوين دولة خاصة بهم بواسطة الاستفتاء.

وهكذا يكون حكم المحكمة العليا الكندية لم يؤثر فقط على التشريع العادي البريطاني، بل أرى أنه أدى أيضاً إلى تعديل الدستور البريطاني القائم على العرف بإصدار قانون استفتاء إسكتلندا، لأن القوانين العادية تعدل أحكام الدستور العرفي البريطاني.

ومع ذلك فإن لجوء بريطانيا إلى إجراء الاستفتاء في حالة انفصال إسكتلندا الذي تقرر بقانون خاص، وأيضا لجوئها إلى الاستفتاء بموجب قانون خاص حول الخروج من الاتحاد الأوربي، وعلى الرغم من اتصاف الاستفتاء في هاتين الحالتين بالصفة الاستشارية المحضة وذلك حسب وصف المحكمة العليا للمملكة المتحدة له، في قضية الخروج من الاتحاد الأوربي، بسبب تطبيقها للمبدأ الدستوري البريطاني حول سيادة البرلمان، إلا أنهما مع ذلك قد اكتسبا أهمية سياسية هائلة لا يمكن إغفالها أو تجاوزها بحيث نفذت الدولة البريطانية نتيجتهما في الحالتين رغم افتقارهما للقوة القانونية، وذلك لكونهما عبرا عن رأي الشعب البريطاني في هاتين القضيتين البالغتي الأهمية على مستقبله، وهو الأمر الذي يمكنني معه القول بوجود سابقتين دستوريتين على أقصى قدر من الأهمية، تقضي أولهما باللجوء إلى الاستفتاء الاستشاري في حالة الخروج من التجمعات الإقليمية التي تكون المملكة المتحدة عضوا فيها ويكون لهذا الخروج آثارا هامة جدا وواسعة على حياة الشعب البريطاني وحقوق مواطنيه، بينما تقضي السابقة الثانية باللجوء الى الاستفتاء الاستشاري في حالة المطالبة بانفصال أي جزء من المملكة المتحدة.

* عضو المحكمة العليا عدن سابقا
وكيل وزارة العدل صنعاء سابقا
كالجري – البرتا - كندا 11 يناير 2018م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى