مجهولو النسب «اللقطاء» بحضرموت.. والبحث عن الهوية!

> تقرير/ خالد بلحاج:

> بكى سعيد طويلاً حينما التقيته بجانب أحد المساجد بحضرموت معلناً ببكائه بداية حياة مليئة بالمعاناة.. قائلاً: "من أنا؟ من هم أهلي؟ من أين أتيت؟ لماذا أنا مختلف عن الآخرين؟، ولماذا أنا بالتحديد؟ أسئلة وهواجس كثيرة تلاحقني منذ نعومة أظفاري إلى أن كبرت، أنا من تُركت في الشارع لمصيري، أواجه الطقس البارد أو الحار، وربما عبثت بي القطط أو الجرذان".

يواصل الشاب العشريني حديثه معي: "ينعتونني بـ (اللقيط)، والبعض الآخر يناديني بـ (مجهول النسب)، ويفضل البعض مناداتي بابن فلانة، وهي الأم التي تبنتني.. وأفضل التسمية الثالثة فهي أقل ألماً. أما الأولى والثانية فأحسها سهماً قاتلاً يخترق قلبي، يقولون إن محترفات الدعارة لا ينجبن اللقطاء.. لأنهن لا يثقن بأحد، إنما اللقطاء هم أبناء لحظة ثقة. أنا ضحية ذنب لم أقترفه.. أنا ثمن ليلة عابرة.. أنا ثمرة علاقة لم ترقَ لمستوى الحب.. أنا غباء مراهَقَة وانجراف نحو شهوة.. أنا وعد ذكر، فاته رَكْبُ الرجال ومشاعر أنثى خانت نفسها وثقة والديها.. أنا من كُتِبَ على جبيني الشقاء منذ أن أحست أمي بنبضات قلبي وتركني أبي وراءه، على ضفاف الأسى والمعاناة".

ويضيف: "لقد ارتميت في أحضان أم قبل خمسة وعشرين عاماً، وتربيت وترعرعت في أسرة مكونة من أب وأم وأولاد وبنات ظاناً أنها أسرتي، صحيح منحوني الرعاية والعطف والتربية حتى صرت كبيراً، بعدها وبحرقة أتفاجأ بالأم تقول لي: "لم يعد لك مكان بيننا" فأنت لست أبناً لنا وإنما بالتبني، وواصلت الأم حديثها فيعلم الله أنك أعز من أولادي ولكن تلك هي مشيئة الله، فالبنات كبرن وأنت لست بمحرم لهن".

يواصل سعيد حديثه لـ "الأيام"، بحرقة وألم: "مشهد لم أكن أتوقعه فغادرت المنزل ولم أجد أمامي سوى غرفة صغيرة بأحد المساجد القريبة من منزل أسرتي البديلة" وهأنا كما ترى وحيداً!، ومن يدري لعل والداي تخليا عني لأسباب أخرى! لكن لا يهم، فالمجتمع يَأْبى أن يصدق.. ولست أكثر من شخص يُجْهَلُ نسبه، تركوني وحيداً، بعد ساعات من ولادتي، على رصيف كان الشارع خالياً، إلا من بعض المتسولين والكلاب الضالة، سمع أحدهم صراخي فحملني إلى مخفر الشرطة أو إلى المستشفى وإلى المكان الذي عشت فيه، أطلقوا عليّ اسم (سعيد)، كي آخذ من اسمي ولو حظاً قليلاً، لكن الحياة أَرَتْنِي كل معانيها، إلا ذاك المكتوب على سجلي".

أمٌ بالتبني
تقول أم سالم، الأم البديلة لسعيد: "أخذتني الشفقة والرحمة حينما رأيته مرمياً بعنبر الطوارئ بالمشفى الذي أعمل فيه وأنه ليس له عائل فأخذته ليتربى عندي فمنحته كل الحنان والعطف وربيته تربية حسنة حتى صار كبيراً".

وتضيف لـ "الأيام": "سعيد واحد من بين بنتان وولد ربيتهم بالتبني ولما صار ناضجاً ودعته ليشق طريقه، أما الولد الآخر الذي اعتبره أخيه فقد فارقنا في عز شباب في حادث أليم، فسعيد اليوم لم يعد محرماً لبناتي ومن الصعوبة أن يظل بيننا، ولكنه سيظل ابني الذي ربيته، فهو يأتي لزيارتنا في الأعياد والمناسبات، ويغدق علينا بالهدايا، ويعلم الله بألم الفراق له، فكم تمنيت أن يكون ابني الحقيقي لما لمسته منه من حب ووفاء".

ظاهرة قديمة
يرى محمد عمر، وهو مسؤول بالشؤون الاجتماعية بالقطن، أن تخلي بعض الأهل عن أبنائهم ظاهرة قديمة متجددة، قد تتأثر نسبة انتشارها بتردي الظروف الاجتماعية وازدياد معدلات الفقر".
ويتابع: "هذه الظاهرة قد يتراجع انتشارها أو يزداد، لكنها لا تختفي أبداً، وفي العادة يتراوح عدد الأولاد (اللقطاء) سنوياً، ما بين ولدين إلى ستة، وفي العادة يتم إيداع الأولاد الذين تخلّى عنهم أهلهم، أي اللقطاء، في مؤسسات خاصة للرعاية كدار الأيتام، أو تتبناهم بعض الأسر، واستصدار هويات لهم من قسم السجل المدني".

ويضيف لـ "الأيام": "لدى العثور على طفل في منطقة ما، يُسلّم على الفور إلى أقرب مخفر أو مشفى، بحيث يتم التحقيق في الأمر، في محاولة لإيجاد أهل الطفل والتحري عن الأسباب التي أدت إلى التخلي عنه، وفي حال عدم التوصل إلى نتيجة، يرسل الطفل إلى دار الأيتام ، أو إلى أحدى الأسر لتتبناه".

اتخاذ الإجراءات اللازمة
يقول مسؤول السجل المدني، عارف مبارك: "يتم اعتماد تأكيد عاقل الحارة أو الشؤون الاجتماعية بالواقعة، ويتم تسجيل اللقيط في سجلاتنا باسم ما ولا تعطى له كنية أو قبيلة ولا يسجل اسم الأم في سجلاتنا وتصرف له شهادة إثبات بذلك".
مندوب البحث بمستشفى القطن بحضرموت، خالد صالح، يؤكد أن هناك حالات كثيرة من هذا النوع، يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة حيال وصولها، مشيراً إلى أن هناك أسر متخصصة في التبني تتواصل معنا للبحث عن أولئك اللقطاء لتربيتهم ويتم إشعارهم فور وصول أي حالة، وتأتي المتبنّية ونعطي لها الطفل بعد اتخاذ الإجراءات.

عُقدة
وترى مروى أحمد، المتخصصة في علم النفس العيادي، أن معاناة الأولاد الذين لا عائل لهم أو الذين تخلّى أهلهم عنهم تختلف عن معاناة باقي الأولاد الذين يعيشون في دار الأيتام أو الرعاية، إذ لكل واحد منهم قصته وعقَدة. وتفيد بأن لدى كل إنسان عقدة ما، ففي الماضي كانوا يعتبرون الشخص الذي يعاني عقدة معينة "مسكيناً أو مريضاً" ويعيّرونه، أما في عصرنا الحالي، فبتنا ندرك أنّ الإنسان السوي لا بد من أن يكون معقداً من ناحية ما، والذين لا عائل لهم هم جزء من هؤلاء الناس، لكن عُقدهم تتمحور حول وضعهم الخاص، وهم في بحث دائم عن هويتهم، مشيرة إلى أن دور الأم هو المؤثر الأهم في حياة كل منا، يليه دور الأب في الحماية والرعاية والتوازن الأسري. وتطرقت إلى حالات الانفصال التي يعيشها الأولاد والشباب والعقد الناجمة عنها، فتقول: "هي الولادة، الفطام، الذهاب إلى المدرسة، والزواج، وعادة يتم تحضير الولد لهذه الحالات أو المحطات التي يمر بها تدريجياً. أما بالنسبة إلى الولد الذي تخلى عنه أهله، فهو يعاني حالة انفصال أصعب من غيرها، ويتأثر عندما يرى رفاقه يأتون إلى المدرسة ويغادرونها مع والديهم، وبناء على هذه المشاهدات يطرح أسئلة كبيرة ومعقّدة من قبيل: من أنا؟، من هم أهلي؟ لماذا أنا؟، وما إلى ذلك. وهذه الحالة إذا لم تعالج وتواكب بالمتابعة والمعالجة النفسية قد تؤدي به إلى إيذاء النفس والشعور بعقدة ذنب، لأن الولد يظن أنه هو السبب الذي دفع أهله إلى التخلي عنه. لذا نشدد على الاستعانة باختصاصيين نفسانيين لاستيعاب وضعه ومعالجته، ومساعدته على طرح أسئلته، وإخراج ما في داخله وإيجاد الجواب الشافي لكل سؤال يؤرّقه وينغّص حياته".

وتقول الباحثة التربوية في هذا المجال، أسماء علي: "مهما بلغت مستويات العطاء والرقي الذي توفره أي أسرة أو مؤسسة ينتقل إليها الطفل اللقيط، فإنها لن تكون بمستوى العطاء والرقي الذي تقدمه له بيئته الاجتماعية النموذجية والصحية.. بيئة الأسرة وأحضان الوالدين. البحث عن الأم يوم العيد، يوم الميلاد، شهر رمضان المبارك، عيد الفطر السعيد، بداية العام الدراسي، وغيرها من المناسبات والأيام، التي يسعد بها ويبتهج لها الصغار والكبار، كيف يقضيها أطفال حرموا من أحضان الأم ورأفة الأب، لافتة إلى أن اللقطاء تلحق بهم صفة الأطفال غير الشرعيين، ما يؤدِّي إلى رفض المجتمع لهم، وبالتالي فإنَّ هذا الشيء لابدَّ للمجتمع من أن يغيِّر نظرته تجاهه، لأنَّ هذا الطفل في النهاية إنسان ويجب احترام كرامته كإنسان على الأقل".

نظرة ضيقة
أما د. عبدالله، الاختصاصي في علم الاجتماع، فيرى أنَّ مجتمعنا لا يقبل هؤلاء الأطفال كأفراد طبيعيين فيه، فهو يرفض تزويجهم، وينظر إليهم نظرة ضيقة، وهذه النظرة تجعل هؤلاء الأطفال يتحوَّلون إلى مجرمين، فهم ضحية لوضع معيَّن، وطالما يتلقُّون العناية المفروضة فمِن واجب المجتمع قبولهم، إلا أنَّ هذا ما لا يحدث، ما يجعلهم حاقدين على المجتمع الذي يرفض أن يُدمجوا فيه بالكامل، ولا يكتفي بتسميتهم مجهولي الهوية، إنما يصفهم بغير الشرعيين، أو "أولاد حرام"، متجاهلين أنه من الممكن أن يكون لهؤلاء ظروف أخرى أودت بهم إلى الشارع".

فهذا الطفل الذي جاء إلى الحياة بخطأ لا ذنب له فيه، كبر ليجد نفسه في مجتمع يحاسبه وبقوة على جريمة كان ضحيتها، فبعد أن رفضته أمه في يومه الثاني، عاش لقيطاً مجهول النسب، يحاول جاهداً محو وصمة العار تلك، بتحصيله العلمي والمادي، وهكذا سيبقى هذا العار ملتصقاً به ومدوَّناً على هويته الشخصية، دون أن يسمح له بنسيان ماضيه أو التطلُّع إلى مستقبله.

فكثيرون من أمثاله لقوا حتفهم على جوانب الطرق البعيدة، أو داخل حاويات القمامة، بانتظار مَن يمدُّ لهم يده، وكثيرون أيضاً تشرَّدوا وملأوا الشوارع عبثاً وتسوُّلاً.

حياة ملؤها الحزن والأسى تلك التي يعيشها الطفل اللقيط في دار للرعاية أو أسرة للتبني، مهما تلقى من اهتمام ورعاية، بحيث لا يمكنه التغلب على الشعور بالنقص والاختلاف عن الأطفال الذين ينعمون بالعيش في كنف عائلاتهم، فما هو الذنب الذي اقترفه ليعامل هكذا؟ فيجب على الحكومة أن تسن قوانين ولوائح تعيد للقطاء كرامتهم ولينتمي للأسرة التي تتبناه!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى