انكسارات على جدار الوطن

> حافظ الشجيفي

> قبل جرح غائر من الآن..
حتى قبل طراوة أسنة الحرف وقبل جفاف ينابيع الفرحة وانحسار أمواج البسمة!.. وقبل انفجار دوي الرحيل.. وقبل انصهار الذات.. قبل الموت وقبل الحياة..
قبل البؤس والاضطراب والمداد والشعور بالاغتراب..

لم نحيا إلا في جزر المنافي أو رمال الفيافي، وكان الذهول موالاً حزيناً يتردد في ممرات رحيلنا، ولم نكن نحن غير عابري زقاق نقتفي أثر الخطى الرتيبة  ونتوزع على كل مشاعر القيظ  سحباً لا تمطر إلا وجعا..
قبل مخاوفي.. قبل كل هذا الشتات، وقبل انكفأ منابع الوفاء، قبل كل هذه المقابر. قبل كل هذا الرحيل..

أقر أن الذي جمع بيننا ذات لقاء لم يكن عابراً على أية حال تبخر في سماء أسطورة التفاصيل.. كان صدى نبضك القادم من منارات الحنين العتيقة كان من زخات عطر ذاكرة الأمكنة الضيقة وعبق أزاهير الآمال الشاهقة، وكان انتكاسة ألم أتت بي من أعراس الموت وولائم الصمت والسكون إلى حيث تلتقي كل المواجع..! وتختلي بي.. وتذبحني من الوريد للوريد..
هل تسمعون أنين أوجاعي؟
لا ألتف إلا على الفراغات الموبوءة في أسوار هذه المدينة..
لأجد لي ظهرا أستند اليه..

في زمن اللا أحبة.. في زمن الجفاف..
هل تشهدون كم كان الحب غصة في حلوقنا؟
وكم كانت الكتابة قدراً نمضي إليه وعيوننا معلقة على عقارب الفاجعة المدلهمة..؟!
منذ ما تقرر من صمت..
وأنا أسمع قصص الفوضى في دارنا القديم..!
لم أعد أعرف عنه شيئاً أكثر من ذلك.. وأكثر من روايات البؤس..
منذ ما تقرر من بعد القطيعة بيني وبين البشر والأهل..

لم أستيقظ صباحا على عيد الأطفال و(الطماش) والملابس الجديدة والأكف الصغيرة المحناة..
منذ وجع وريب..
لم تتردد في فناءات الروح أهازيج الطفولة..
ولا انتصر الصخب على جنون هذه الجدران المتوحشة..
وأنت؟
أينك أنت من رقاب روحي المنتحرة على إرادة القدر..
أينك أنت من فجائع البعد والشتات..
أينك أنت من طعنات الخيانة..

أينك أنت من كل هذا الدمار
هل بحثت في شقوق هذه المدينة الضيقة المكلومة.. عن وطن توارى خلف كل هذا الحريق والدخان..
هل وجدت في ظلماتها الجائعة إلى الضوء..
أزقة "كريتر" وصوت "أحمد قاسم" و "ذاكرة البيحاني" وساحلها الذهبي الذي فقد بريقه وبهت رونقه
هل عثرت على أشلاء وطن في ركام هذا الخراب، أم أنك تستنفذ ما تبقى من أحزانك في رحلة الدهاليز المؤدية إلى الحيرة..
ولا شيء سوى الحيرة وحدها..

دعني وشأني، لبرهة من الزمن أقهقه كطفل في الخامسة كلما قال لي أحدهم
مر كل الضجيج الأنثوي الماكر من هنا.. عبر المسافة الفاصلة بين اللقاء والوداع..
دعني أتلو عليك آيات الانكسار على جدار وطن مفقود، وهذا القلق الذي تتركه فينا المقابر والأموات الذين يتساقطون كل يوم دون سبب إلهي.. هذا الذي يزرعه فينا غبار العاصفة.. العاصفة..!

منذ متى والعاصفة تختصر في وجوهنا كل أحزان العالم؟
وتستعذب الأغاني كما كانت هناك قبل أن ينكسر الفرح، قبل أن يغتال الأمل وقبل أن يذهب الشعراء. والفنانون في مواكب الموت.. وتصحوا النساء على نحيب الفجائع في كل صباح..
منذ متى؟!
وأنا أعبر مضيق السنوات.. ويمر العمر سراعا..
خيل لي أن (درع) الحرب الذي ارتديناه عنوة
كسر بداخلنا معاني الألفة والسكينة، وبذر فينا مخالب العنف والقلق والعذابات التي لا تنتهي..
الآن أصبح من الممكن أن أكتبني..
قصة طويلة لتاريخ بائس
عشته في كنف هذا الوطن المقتول..
عنوانا يختصر ملحمة الموت وبطولات الاحتضار.

كم تحتاج من حبر لتنهب مني كل الأحزان؟
والذكريات
والأحلام القديمة؟
أفعل ذلك، مفوض أنت، من ذاكرة الموت إلى موت الذاكرة..
كم من ذاكرة تحتاج..
كي تنحت لي أهلا من جديد
على شكل قلب حامض (كليمة) كان يزرعها أبي في حقله قبل أن يموت ويموت حقله معه.. ويخونه الصدأ والأبناء.. وأنا
كان.. صلب كغيمة.. وحالم كسماء
خذ من عمري ما أردت
وأسس معي أهلا وبيتا وقبيلة ووطن
وانتصر لي على كل هذا الخراب..​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى