الألق في «نظرة في ملامح الروح» للشاعر أسامة المحوري (1-2)

> كتب: عبدالله لالي*

> الجزء الأوّل:
أقبلت على قراءة قصيدة "نظرة في ملامح الروح" ولم يكن في نيتي إتمام القراءة، إنّما أردت إطلالة سريعة فضولاً واستكشافاً؛ فإذا بي أنساب مع شذى الكلمات وأغرق في بحر المحبّة بألقه السنيّ.. ووجدتني أتملى حسنها وجمالها بانبهار ودهشة لا تقع لي مع كلّ القصائد من الشعر المعاصر.

لفتة
في الإهداء الذي قدّمه الشاعر بين يدي قصيدته (سمفونيته)؛ دلالة عميقة على المعنى العام الذي يرمي إليه النّصّ الشعري، إذ يقول:
إلى كلِّ صديقٍ يستحقُ هذا اللقب..

الإطلاق مع التقييد ذو إيحاء قويّ ورمزيّة عميقة، كلّ الأصدقاء ينالهم شرف إهداء هذا النصّ بشرط واحد فقط، شرط ذهبيّ لا يختلف عليه اثنان؛ أن يستحقّ كلُّ مهديٍّ إليه شرفَ حمل هذا اللّقب الشائع و(النادر) في الوقت نفسه، الشائع في لفظه النادر في مضمونه.. ولذلك أطلق الشاعر وقيّد وحقّ له أن يفعل ذلك..
سباحة في بحر المحبّة:
يدلف الشاعر إلى فضاء الروح المحبّة بهذا الصورة الفاتنة:
نبضاتُ الفؤادِ يزددنَ خفقا
وحروفُ الثناءِ يعجزنَ نُطقا
وأيّ صورة هي أمثل من هذه.. فؤاد ينبض شوقاً كطائر يرفرف فوق عشه يحوط صغاره، وهو لا يجد في الكلام ما يعبّر به عن دفق المحبّة الذي بقلبه، ولا بِطُوفان الوجد الذي يغمر روحه، وعادة في التصوير الفنّي تكون الصورة الضاجة بالحركة هي الأقوى وغالباً ما تبدأ بفعل، فإن لم تبدأ بفعل كان الاسم يحتوي في طيّاته مدلول الفعل، ولْنَنظر إلى هذه الصورة المتفجّرة حيويّة (نبضات الفؤاد يزددن خفقا) بدأ باسم (نبضات) ولكنّه اسمٌ هو أقوى من الفعل اسم حيّ اسم لا تكفّ الحركة عن النطق بين جنباته، ثمّ هو بعد ذلك فؤاد مليء بالمشاعر والأحاسيس الحارة بل المتقدة، ثمّ هو فوق ذلك تتوالى دفقاته ولا تنقطع..
إذاً معنا حركة تفاعليّة من نبض وفؤاد وخفق متزايد.. صورة فنيّة قويّة الملامح صارخة الألوان ضاجة بالحركة والنبض؛ تقحَّم مخيلة القارئ فتحتويه بجمالها وبهائها فلا يملك إلاّ أن ينساق معها مثل طفل أسلم قياده لأمّه تأخذ به يمينا أو تأخذ به يسارا فهو في أمان ما دام معها وحسب..

وهل بعدُ يمكن لحروف الثناء أن تبلغ شأوها، أو حتى تستطيع أن تنبي عن شوقها ولهفتها، فالصورة والمشهد كلّه معجز في مجمله عميق في دلالته تطأطئ أمامه حروف الثناء حيرى خجلة قد كبّلتها الدهشة وأخرصها العجب: "وحروفُ الثناءِ يعجزنَ نُطقا".
وما كلّ ذلك تعبيراً عن عشق وغرام لحبيبة فاتنة، ولا لغادة فاترة الطرف كحيلة العينين، وإنما شعور مخلص وخلجات صادقة عن الصداقة الصافية والأخوة الطاهرة من كلّ هدف ماديّ أو غرض زائل.. وكيف لا وقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلّم:
"المتاحبّون في الله على منابر من نور يوم القيامة".

كلّ لغات العالم وكلّ تعابيره وصوره الفنيّة لا يمكن لها - بنظر الشاعر - أن تبلغ إلى وصف المحبّة التي بقلبه لصديقه (الرمز)، لا بل بخافقه وإن يكونا واحداً فإنّ دلالة أحدهما أقوى وأعمق من الآخر، وأكثر قرباً أو اقتراباً من تصوير حقيقة ما يشعر به الشاعر من فيوضات المحبّة، محبّة تتوّج من يحبّه الشاعر أميراً على عرش خافقه وسيبقى كذلك إلى الأبد..
أنتَ من قمةِ الفصاحةِ أعلى
ومن الشعرِ والبلاغةِ أرقى
عشتَ في خافقي "المحبِ" أميراً
وعلى عرشهِ الأثيرِ ستبقى
لعلّ الشاعر يقصد شخصاً بعينه، وصديقاً محدّدا، ولكنّ معاني القصيدة تنسحب على كلّ صديق مخلص وفيّ؛ توفّرت فيه شروط الصداقة الحقة، كما قدّم الشاعر في إهدائه..

لكنّ هذه المحبّة شبه المطلقة وهذا الشعور الدافق يشوبه أحياناً ما يعكره في ظاهره ويفسد صفاءه، وقد يكون ذلك في صورة جفاء عارض أو شحناء طارئة، فيكون ذلك بمثابة العود الذي يؤجج نار المحبّة من جديد، كما يؤجج السّحاب الودق، ولكنّه ليس في الأفق الممتدّ إنما هو بين جوانح فؤاد المحبّ..
وبدلاً من أن تكون القطيعة يزداد الشوق وتزاد المحبّة إلى حدّ يكاد الشاعر معه أن يحسد نفسه:

كلما أشعلَ الجفاءُ ثقاباً
أرسلَ الحبُ من فؤادِك ودقا
يا صديقي أكادُ أحسدُ نفسي
أيُّ قلبٍ من قلبك الحرِّ أنقى!
في القصيدة خفّة رائعة وعذوبة شائقة، تبدي رقّة قلب الشاعر كما تبدي صدق سريرته، وتدلّ عذوبة ألفاظها وشفافيتها، على تلبّسه بمعاني القصيدة تلبّساً كاملاً، تلبّسَ من عاش ورأى وجرّب وذاق وهو يكاد يقول:
قد كان ما كان مما لست أذكره
فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر.
* أديب وناقد جزائري​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى