لمحة عن الأزمة اليمنية في ظل متغيرين جنوبا وشمالا

> بدر قاسم محمد

> تختلف أسباب وأبعاد أزمات الصراع المحلي لبلد عن بلد آخر في العالم، لكن في وقتنا الحاضر يكاد اختصارها في بعدين:

1 - البعد القومي: كما هو حاصل في أزمة أكراد منطقة الشرق الأوسط وأزمة جزيرة القرم وولايات الشرق الأوكراني.

2 - البعد الطائفي: كما هو حاصل في أزمة جنوب السودان وأزمة البوسنة والهرسك وأزمة العراق.

- تحديد أبعاد كل أزمة صراع محلي في كل بلد على حده، يساهم بشكل فعال في بلورة الرؤى والحلول السياسية التي دفع بها المجتمع الدولي لانتشال البلد من أتون الحروب والاقتتال وما قد يترتب عليها من انتهاك لحقوق الإنسان ومن تداعيات أخرى تلقي بظلالها لتهدد الأمن والسلام الدوليين، لذا فتحديد بعد أي أزمة، طائفيا كان أو قوميا، يعتمد على استشراف مستقبل الحل السياسي المطروح ومدى إمكانية إحلال السلم الاجتماعي بين الأطراف المتصارعة، إذ إنه من الضروري جدا الأخذ بعين الاعتبار "إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة" في رؤية المجتمع الدولي لأي حل سياسي ممكن لأي أزمة صراع محلي محتدم، لكون إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة يعتبر من أهم عوامل إقامة كيان دولة عضو في المجتمع الدولي على كامل جغرافيا بلد الصراع المحلي، كما تأتي عملية إقامة كيانين منفصلين عن بعض كعضوين دوليين على جغرافيا بلد الصراع المحلي مسببة بمثول العامل المهدد للسلم الاجتماعي في الأفق البعيد للحل السياسي، في كيان الدولة الواحدة، خصوصا وهو يلقي بظلاله على ما يهدد الأمن والسلم الدوليين!

- لهذا بإمكاننا اعتبار أن "إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة" هو الركيزة الهامة لرؤية أي حل سياسي لأي أزمة صراع محلي يدعمه المجتمع الدولي.

لقد ولّدَ البعد الطائفي لأزمة جنوب السودان ديمومة العامل المهدد للسلم الاجتماعي، مما أقنع المجتمع الدولي بانتفاء معالجة الأزمة في رؤية حل سياسي في إطار الدولة الواحدة، فأتت رؤية الحل السياسي الدولي بخيار فصل جنوب السودان وإنشاء كيان سياسي جديد ومستقل عن شماله بحدود سياسية جديدة، رسمت على أساس طائفي وعلى قاعدة إنهاء العامل المهدد للسلم الاجتماعي.

كان للأزمة العراقية خصوصيتها، فقد ولّد بعدها الطائفي بعدا آخر قوميا مختصا بأكراد العراق في ما بات يعرف بإقليم كردستان، فبسبب تناسل الأزمة الطائفية العراقية إلى أزمات مذاهب ونحل وملل عديدة وتداخل جغرافيتها إضافة لأزمة القومية الكردية، كان خيار الدولة الفدرالية هو الحل السياسي الصائب والمعقول!

لجريان الأزمة اليمنية حتى لحظتنا الراهنة رأيها المخالف لآلية الحل السياسي الذي اعتمدت الأمم المتحدة على تنفيذه عسكريا على أرض الواقع، حل الدولة الفدرالية، ومازالت الأزمة حتى هذه اللحظة تخبرنا بأن ثمة انفصاما بين: الحل السياسي النظري والواقع العسكري العملي، ناتج عن وجود خطأ تشخيصي للأزمة اعتمد البعد الطائفي كقاعدة حل سياسي أقر خيار الدولة الفدرالية، مهملا أن ثمة بعدا سياسيا قابع في قعر الأزمة اليمنية يتمثل جنوبا في وجود القضية الجنوبية ببعدها السياسي، قضية لديها إرث ثقافي من إرادة شعبية ثورية ضد الشمال السياسي على خلفية فشل الوحدة اليمنية السياسية التي على أثرها أتى الاجتياح الشمالي للجنوب عسكريا في حرب صيف 1994م، حيث يرى الجنوبيون أن الوحدة فشلت وفرضت بالقوة عليهم عندما يسترشدون بتوصيف قضيتهم الجنوبية، في الأزمة اليمنية الأخيرة أتى البعد الطائفي المنبجس كالمارد من شمال الشمال ليسقط صنعاء أولا ومن ثم أتجه لغزو الجنوب مرة أخرى، ليضيف لجراح الجنوب السياسية جراحا أخرى ذات بعد طائفي أيقظت من التاريخ، بعدين للأزمة: عقائدي وسياسي أثيرا جنوبا معا واختلطا فدحرا تمدد الشمال الطائفي خارج أسوار الجغرافيا الجنوبية بحدودها السياسية سابقا. لينطبع البعد الطائفي في الذاكرة الجمعية الجنوبية مشكلا تراصفا فوقيا على البعد السياسي للازمة اليمنية من منظور جنوبي!

- بينما كان للأزمة اليمنية متغيران سياسيان منعا بعدها الطائفي من الحضور في الذاكرة الجمعية الشمالية:

- حضر المتغير الأول شمالا منذ بداية الأزمة في صورة تحالف سياسي بين الحوثيين وقيادة حزب المؤتمر، ممثل النظام السابق.

- بينما حضر المتغير الثاني جنوبا في نهاية الأزمة في صورة انتصار وإفلات جنوبي من قبضة السيطرة الشمالية.
نبدأ بحضور المتغير الأول شمالا:
- منذ بداية الأزمة اليمنية لم تستحضر الذاكرة الجمعية الشمالية "البعد الطائفي لأزمة انقلاب جماعة الحوثيين على الدولة اليمنية" بسبب تلبيس التحالف السياسي بين جماعة الحوثيين وحزب المؤتمر، ممثل النظام السابق بزعامة الرئيس صالح، وإخفائه على عامة الناس زحف البعد الطائفي إلى موقع السيطرة والصدارة، وهو يحاول أن يضفي على الأزمة بعدا سياسيا، لقد ظلت الخطابات السياسية للرئيس الراحل صالح في أكثر من مناسبة تضلل المجتمع المحلي والدولي بتأكيده على أن الأزمة هي أزمة سياسية وليست طائفية (بإمكانكم العودة لأول خطاب له وجهه إلى أول قمة عربية عقدت في مصر بعد تدخل التحالف العربي عسكريا في الأزمة اليمنية وإلى الخطابات التي تلتها)، في نفس وقت تأكيد الرئيس عبدربه منصور هادي في أكثر مناسبة على أن الأزمة طائفية وليست سياسية.

- قبل الانتقال إلى الحديث عن المتغير الثاني جنوبا لابد من الإشارة إلى حضور فترة زمنية برزخية قصيرة، بعد مقتل الرئيس صالح عندما بدأت جماعة الحوثيين ممارسة شعائرها الدينية الشيعية بشكل علني واضح، استحضرت خلالها الذاكرة الجمعية الشمالية البعد الطائفي للأزمة ثم ما لبثت أن عادت لاستحضار البعد السياسي عندما أدركت حضور المتغير الثاني جنوبا التالي ذكره:
المتغير الثاني جنوبا:
في منتصف يوليو من العام 2015م حرر الجنوبيون العاصمة عدن ومن ثم اتجهوا غربا مواصلين دحر جماعة الحوثي إلى الشمال على محورين: جبلي باتجاه الضالع ويافع، وساحلي باتجاه الحديدة، على صعيد الجزء الشرقي من الجغرافيا الجنوبية وتحديدا في ساحل حضرموت تمكنت قوات النخبة الحضرمية من دحر تنظيم القاعدة الذي كان يسيطر على مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وفي محافظة شبوة كذلك تمكنت النخبة الشبوانية من تحرير المدن الجنوبية لمحافظة شبوة من سيطرة تنظيم القاعدة كما حررت العاصمة عتق من سيطرة جماعة الحوثيين وتواصل دحرها من المديريات الشمالية الواقعة على الحدود مع محافظتي مأرب و البيضاء الشماليتين، لقد أتت الانتصارات الجنوبية وخصوصا انتصارات شبوة - بعد مقتل الرئيس صالح شمالا في أواخر 2017م وبروز سيطرة جماعة الحوثيين الطائفية على السلطة شمالا - لتعيد استحضار الذاكرة الجمعية شمالا للبعد الطائفي للأزمة بصورة مؤقتة إلى استحضار واستدعاء بعدها السياسي في صورة الجنوب الخارج عن السيطرة الشمالية، فما لبث أن عاد البعد السياسي إلى الذاكرة الجمعية الشمالية مرة أخرى!

مما يدلل خفوت النفس الطائفي شمالا هو مراوحة جبهات الصراع: الشمالي - الشمالي مكانها طوال فترة الأزمة، قد يبدو هذا ليس دليلا كافيا يثبت صحة كلامي، ما يعزز هذا الدليل هو مستجد الأحداث العسكرية جنوبا بين قوات الحكومة اليمنية وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي في كل من شبوة وأبين وعلى مشارف مدينة عدن، حيث رأينا زحفا سريعا وعنيفا وشرسا للقوات المرابطة في محافظة مأرب المتاخمة لجبهات الحوثيين وتفصلها عن صنعاء بضعة كيلومترات فقط، لقد استدارت بسرعة في ليلة وضحاها هذه القوات وأدارت ظهرها لسيطرة الحوثيين وراحت جنوبا لمحاربة النخبة الشبوانية والمقاومة الجنوبية وقوات الانتقالي الجنوبي، لقد كشفت عن امتلاكها عنفوانا حربيا استخدمته جنوبا ولم تستخدمه شمالا ضد الحوثي كل هذه المدة! هذا بدوره يثبت أفول نجم البعد الطائفي لدى قوى الشمال واستحضارها بشكل موحد للبعد السياسي الموجه جنوبا، في مقابل استحضار الجنوب لبعدي الأزمة الطائفي والسياسي بشكل موحد ضد التوجه العسكري الشمالي ناحية الجنوب، وهذا بحد ذاته يثبت أولا:

- خطيئة الحل السياسي المعتمد نظام الدولة الفدرالية استنادا على تقسيم ذي بعد طائفي!

- بالعودة لاعتماد رؤى الحلول الدولية لأزمات الصراع المحلي في بلدان العالم، على عملية إحلال السلم الاجتماعي بصورة مستدامة، فإن انتفاء البعد الطائفي لدى الشمال أثبت أنه يعيش في سلم اجتماعي مع نفسه وبين طائفتيه الشيعية والسنية عبر عنه انقضاضه الموحد على الجنوب، وعلى طريقة الضد بالضد يعرف، تأتي حالة السلم الاجتماعي التي يعيشها الجنوب مع نفسه بصده الموحد للانقضاض الشمالي الموحد، لتعبر أن:

- ثمة سلم اجتماعي شمالي - شمالي، يتشكل بحدوده السياسية، وثمة سلم اجتماعي جنوبي - جنوبي، تشكله ذات الحدود السياسية، يتشكلان في سياق تصادمي في صورة من اللاسلم اجتماعي شمالي - جنوبي، يستشف على المدى المنظور والبعيد!

وجود ما يهدد السلم الاجتماعي بصورة مستدامة في أفق الازمة اليمنية بين الشمال والجنوب يحتم على المجتمع الدولي أخذه بعين الاعتبار، خصوصا وأن مثل هذا التهديد يهدد الأمن والسلم الدوليين بسبب خصوصية الموقع الجغرافي للجنوب وحتمية تأثير الصراع المحلي فيه على أمن المنطقة والعالم أجمع.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى