التاريخ منتج بشري لا يرحم البشر

> الهوية ذات، والذات لا تتعدد.. وهوية الدولة تحددها الديانة واللغة والتاريخ والثقافة والفكر، ومجموعة القيم التي تحكم سلوكها، والتاريخ يعد مكوناً أساسياً لتلك الهوية، ومن الأشياء التي يميز الأمم عن بعضها البعض، ولكل شعب ذاكرته التاريخية الحافلة بالأحداث وسلسلة الأعمال التي مرت بها عبر مراحلها المختلفة، وكما أن هناك أحداثاً ووقائع خالدة لها مكانتها وعظمتها في القلوب قد تكون على شكل أعمال تفتخر بها الأجيال كمفخرة الحضارات والاستكشافات العلمية والاختراعات والثورات التي يظل يتذكرها الإنسان كلما حلت ذكراها مع مرور الزمن فأن هناك أيضاً النكسات والنكبات والمنعطفات الأخرى التي نتجت عنها وقائع مأساوية وأحداث محزنة شكلت علامة سوداء في سجل تاريخها.

والتاريخ قد يكتبه المهزوم كما يكتبه المنتصر، كلا من وجهة نظره ومن الزاوية التي ينظر إليها وحتى مع وجود الحقائق والوثائق بين أيدي هذا المؤرخ أو ذاك يظل لكل منهم وجهة نظره ودوافعه، ولكن وأياً كانت الأحداث وطبيعتها فالتاريخ لا يعتمد في نهاية المطاف إلا على عنصر الحقيقة وإن تأخرت، والمؤرخ وحده القادر على بلورة الأحداث وصياغتها وسردها وتدوينها في سجل التاريخ بكل صدق وأمانة ونزاهة، وبعد أن يكون متجرداً من نزواته الخاصة والذاتية ومتحرراً من السيطرة الأيديولوجية السياسية السائدة أثناء فترة التدوين، كون النظام السياسي غالباً ما يكون له السطوة المهيمنة على توجهه عندما لا تتفق تلك الحقائق مع مصالح النظام السياسي ما قد يسمح لبعض العابثين من استغلال مواقف معينة تعمد إلى التشويه أو التحريف، وهي الجريمة بحق الأجيال، لما لها من تأثير سلبي على مداركها وربما تظل لسنوات عديدة ريثما يتم الكشف عن حقيقتها ويجدوا أنفسهم قد تلقوا حقائق مخالفة لتلك التي علقت بالأدهان، وهو الأمر الذي قد يفقدهم الثقة والمصداقية بحقائق أخرى قد تكون هي الحقيقة بعينها.

إن كتابة التاريخ مالم يعتمد الدراسة النقدية والتحليلية وفقاً للمنهج العلمي للوقوف على حقيقته تكون السيادة حينها لأنماط أخرى خاضعة للتأويل والتشكيك وما يصاحب ذلك من شهوة في التشهير ورغبة في التبرير.

إن الشعب اليمني ترويه حلقات موصولة من النضال والأحداث والانتصارات كما هي الاخفاقات والنكبات والنكسات المأساوية.. يمكن القول أن فيه من الأمور الغامضة الشيء الكثير والتي لا يزال لم يفصح عنها حتى اليوم لسبب أو لآخر، كما أنه لا يخلو من التشويه والتزييف لسنا عن ذلك ببعيد كما حصل في لحظة رفع العلم، في 22 مايو 1990، وما جرى لتلك الصورة من فبركة بعد عام 1994م عبر وسائل الإعلام الرسمية المختلفة وهي اللحظة التي شاهدها الملايين من البشر في الداخل والخارج عندما أقدمت السلطة حينها باستبعاد صورة المناضل علي سالم البيض من تلك اللحظة ومن ذلك المشهد التاريخي.

وكما تم التزييف أيضاً بعقول الأجيال وتحويل يوم 7 يوليو 94م باعتباره يوماً للانتصار العظيم والفتح المبين، كما هو مذكور بالمنهج الدراسي، بينما في حقيقة الأمر كان يوماً أسوداً تم بموجبه الانقلاب على الوحدة السلمية والعبث بمضمونها وتحويلها منذ ذلك اليوم إلى وحدة بالإكراه وبالقوة المعمدة بالدم.

إن دروساً كثيرة تبدو اليوم مثقلة بالالتباس والأسرار الخفية بالنسبة للكثيرين وإن كانت لازالت محصورة بين قلة من الأشخاص ممن وضعتهم الأيام في ظروفها وهي بحاجة ماسة للكشف عنها والوقوف أمام حقيقتها على الأقل منذ تاريخ الثورة إلى اليوم يظل أبرزها ملف الأحداث السياسية الدامية وما رافقها من عمليات للاغتيالات والتصفيات والملاحقات والاعتقالات خارج القانون وكلها جرائم لا تسقط بالتقادم، وإن كانت ملفات مغلقة في سجلات السلطات السياسية المتعاقبة وأصبحت مرادفة للماضي إلا أن فاعليتها تظل في علاقة جدلية مع الحاضر وفي قائمة الانتظار تنتظر حكم التاريخ عليها، فالتاريخ وإن كان منتجاً بشرياً إلا أن صلاحيته لا تنتهي وتظل سجلاته مفتوحة يدون ولا يرحم، إما يسجل لك أو عليك.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى