قصة قصيرة.. في حضرة ولي الله الخضر

> سالم فرتوت

> لقد جاءه أخيراً والليل الذي بلغ هزيمه الأخير متدثرا كان بملاءة أضفى عليها القمر الأخضر الموشى بخيوط فضية ألوانه!
بلى إنه هو بشحمه ولحمه يأتيك متنكرا في سحنة رجل عجوز أسمر بأسمال رثة حافي القدمين تلطخ بقع مرض الجذام جلده، فينفر منه المغفلون، أما عبد الرحيم فلطالما انتظر قدومه إليه، وكم قد استدعاه في يقظته، وزاره في المنام ذلك الولي الجوال الذي يوزع بركات الله على المحتاجين!

وعبد الرحيم أشد حاجة للمال من أي شخص آخر! حتى أنه ارتضى، هو الشاب الوسيم، أن يعمل بالأجرة اليومية في الأعمال العضلية، أو حارساً للحقول كشأنه الآن، في هذا الوقت المتأخر من الليل، حيث يتقلب على فراش رث فوق عشة تقبع على حائط ترابي (سوم) من حيطان الحقل المزروع بطيخا، العائد لأحد ملاك الأراضي. وهو لن يجري الماء في قناته إلا إذا خصه ذلك الولي، الذي امتلأ سمعه عن كراماته التي جعلت من أناس لاحقهم الفقر منذ ولدوا، أثرياء في ليلة وضحاها!  ً

ًوالذين استكبروا على الرجل أضاعوا فرصتهم. لكن عبد الرحيم لن يدع الفرصة تفلت من يده.
يجيئك الخضر ورائحة الجذام المنبعثة منه تكاد تهشم أنفك! يطلب منك، بعد التحية طلبا ما فحذار أن تصده! خدمة قد يقول لك: (احملني إلى مكان ما! أو يروم طعاما فكن خدوما له، ثم أبشر بالخير، إذا أنت استجبت له فما أن يدير ظهره لك إلا وقد صار بهيئة ملاك يرسل إلى أنفك رائحة أشذى من المسك، ثم، وهذا هو المهم، تجد نفسك تقول للفلوس: (تعالي، فترد عليك هذه الحلوة شبيك لبيك عبدتك بين يديك).

إيه يا عبد الرحيم العمارات التي كادت رقبتك تنقصف من كثرة نطلعك لعلوها ستنصب ما يطاولها والسيارات ستغيرها كل عام والنسوان ستتزوج منها أربعا تحيطهن الجاريات وكرشك سيمل من الأطعمة التي تتمناها، ناهيك عن الفاكهة وأغلى المشروبات.

وسيتحقق كل ذلك -فقط- إذا خصه الخضر بزيارته. إن آماله معلقة على ذلك الولي الذي تعبت عيناه من طول انتظارهما قدومه إليه.
أحياناً كان إذا ما فاجأه شخص في خلوته تهب فرحته وسرعان ما تقع جريحة لأن القادم من معارفه، والخضر لا يتمثل لك إلا فى هيئة رجل غريب عنك!

سنين تقضت وهو في انتظاره. سنين اغتنى فيها فقراء فجأة وزاد غنى آخرين بينما ساءت أحوال محتاجين كثر ومنهم عبد الرحيم وأهله. فأين أنت يا سيدي الخضر سأقبل قدميك وإن شئت فسأحملك إلى أقاصي الدنيا.
وجاءه الليلة في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وهو هنا وحده والليل نائم إلا من سهده وحشرة تصفرر، وصياح ديكة يتناهى إليه من بعيد. وبغته يعانق سمعه صوت آدمي فحسب نفسه يتوهم لكن الرجل أعاد نداءه: (يأهل هذا الحقل)! فند سؤال من عبدالرحيم: (من معي)؟
(أنا عجوز جائع). ربما كان هو يا عبد الرحيم وعندما أطل على الرجل من سطح عشته رأت عيناه ذلك إنسانا بنفس مواصفات الخضر -كما يلتقيك أول وهلة- أو يزغرد ويرقص فرحا. ولكن عليه أن يتزن قم استقبل ضيفك. إنه هو جاءك أحيرا.
قفز من عشته تسبقه لهفته صافح سيده منحنيا باتجاه ركبته والرجل يحاول اثناءه عن ذلك قائلا: (أستغفر الله. أنا لا أستحق منك كل هذا).
إنه يختبره! رد الفتى عليه: (بل إنك تستحق أن أبوس قدميك يا سيدي أنا عبدك مر ما تشاء).
(إني جائع).
(لوكان لدي خروف لذبحته لك يا سيدي)!
(يكفيني قليل من الخبز والشاي).
هكذا هم الأولياء زاهدون في الدنيا. وجعل الفتى يستعجل نفسه ليعد للضيف طعاما بعد أن فرش له شوال دقيق وهو يقول له: (اعتبرني ابنك يا سيدي. اجلس حتى أعجن الدقيق). وكان قد أوقد النار بين ثلاث حجرات وضع عليها إبريق الشاي. وسرعان ما عجن الدقيق حتى إذا توهج الجمر أعد قرص الخبز السميك فوضعه عليه. والضيف يثني على صنيع مضيفه ويدعو له: (ليكرمك الله، يا بني، ويحقق لك كل أمانيك)!
فألمح عبد الرحيم إليه بقوله: (ما دمت أنت تدعو لي فإني أبشر بالخير).
سأله الرجل عن ذويه وعن الناس في قريته. ولم ينس عبدالرحيم من أن يلمح إلى سوء حالة أسرته المادية: (هناك ناس يكادون يموتون جوعا ونحن منهم).
(الصبر يا بني. إن الله لا ينسى أحدا).
إنه ليعده خيرا. فكل شيء فيه يدل على أنه هو أسمر أجذم ثيابه رثة حافي القدمين. ومن يعلم بوجود عبد الرحيم هنا، في هذه الساعة المتأخرة من الليل حيث لا أحد إلا حقل مفروش ببساط أشجار البطيخ وقد تخللتها دكنه هنا وهناك. ما من أحد يعلم بوجود عبد الرحيم الآن غير الله ثم وليه الجوال الذي أنى حل عبق المكان بعده بشذا البركة!
أوشكت معركة قرص الخبز والنار على الانتهاء. وها هو القرص قد نضج مشوبا برماد، وترنحت الجمرات تحته.
أمسك عبد الرحيم بقرص الخبز وألقى به في صحن معدني.. ثم راح يجزأه متحملا لسعاته: (وكل ذلك يهون من أجلك يا سيدي). قال ذلك ردا على قول الرجل: (لا تلهب يديك يا بني)!، وصب الشاي لضيفه في فنجان بلاستيكي علق به الغبار لم يغسله من الخارج تماماً حرصا على الماء.
بسم الضيف، وهو يمد يده باتجاه الصحن، دس لقمة في فمه وتناول فنجان الشاي، رشف، وشاركه عبد الرحيم في الأكل ومازال يلمح للرجل: (مجيؤك يا سيدي الليلة هدية من السماء)!
كان الرجل لا يطمع في أكثر مما قدمه له الشاب الذي شعر بالامتنان له مصحوبا بترحيب عادي، ما بالك وهو يقابل بحفاوة واهتمام أثارا ليس خجله وحسب بل ريبته! فمن يظنه الفتى؟! وتعيين عليه أن يفصح له عن شخصه، فإنه ذواد الإبل المعروف لدى بعض الأهالي في قرية عبدالرحيم بلقب غلب على اسمه، ولم يدر أن الفتى الذي كان وديعا مسالما مضيفا سيتحول إلى جمل هائج! عندما قال له: (أنا يا بني عمك خمشوع). وكان رد الفتى عليه أن دفع بالصحن بحدة وهو يصرخ: (برع برع حجر يخمشع رأسك).
فارتعد الليل من صرخته الهستيرية.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى