كيف تبدلت قواعد اللعبة السياسية والعسكرية في اليمن؟

> محمد الثريا

>  في مارس من العام 2015م بدأت أولى الضربات الجوية لعاصفة الحزم التي أطلقها التحالف العربي يومها في استجابته لطلب الرئيس هادي معلنةً عن تدخل عسكري حمل عنواناً واضحاً تمثل بإعادة الشرعية ودحر الانقلاب.
لم تمض بضعة أشهر على قيام عاصفة الحزم إلا وبدأت بشائر النصر والتحرر تتوالى من المناطق الجنوبية تباعاً، يومئذ استبشر الجميع بقرب الإعلان عن تحقيق الانتصار الأكبر والقضاء على الانقلاب كلياً.

لكن ما الذي حدث فجأة بعدها ليغير معه مجرى الأمور ويبدل المعطيات والوقائع بعد أن كانت جميعها تصب في مجرى الحسم الوشيك لتغدو خمس سنوات عجاف في نفق المجهول؟ بل كيف تحول نصر كان في متناول اليد آنذاك إلى معارك وجولات كر وفر لا منتهية، لازالت تراوح مكانها حتى الساعة؟
قال نجيب محفوظ يوماً: (إنه ليس عجيباً أن يعبد المصريون القدماء فرعون، لكن العجيب أن فرعون آمن حقاً أنه إله).

لست متأكداً..! لكن إذا ما استثنينا فرضية حسابات الظل والنوايا المبيتة في تدخل الأشقاء باليمن فإنه سيبدو فعلاً ساعتها أن خيلاء النصر المبكر في المناطق الجنوبية قد أوعزت بشكل أو بآخر لقيادة التحالف المنتشية حينئذ تحولها من موقع الجار الحليف على موقع المتعهد الحصري للأزمة والبلد وربما أبعد من ذلك إلى موقع إله الحل والفصل.. إذ لا تفسير يبدو منطقياً حتى الآن في إضاعة التحالف لنصر أكدته كل مقومات الحسم حينها غير فرضية الزهو بالذات والاستناد كلياً على الحق الحصري والغطاء الأممي القوي، وبالتالي الذهاب إلى إعادة ترتيب سلم أولويات عاصفة الحزم والدلوف في لعبة إدارة الصراع اليمني بدلاً من حسمه مبكراً، خاصة وأن أدوات وأطراف الصراع باتت جميعها محتواه بين حليف داخلي معلب وعدو أرهقته بضع غارات جوية فبات مقيداً وآيلاً.. فما الحاجة إذن لأن تتسرع دول التحالف بحسمها للصراع؟! أليس من الأحرى بها البحث عن أهداف ومصالح أخرى قد تبدو أكثر أهمية وتوازي قيمة فاتورة تدخلها العسكري المكلف قبل أن تهدي هذا البلد حلاً ووضعاً مستقراً على عجل.

عما قريب ستغادر الحرب في اليمن عامها الخامس بينما لايزال التحالف أو ما تبقى منه يمارس دور الإله في محاولة تأكيده أن خيوط اللعبة لازالت بيده وأن لا مسارات أخرى قد تسلكها الأزمة بعيداً عن رغباته أو رؤيته للحل كما يقول.
هي الرؤية والإستراتيجية الأشد تجرداً عن معان الشراكة في ديدن الصراعات الملتوية حين لا تنصر حليفاً ولا تهزم عدواً بل تظل رافداً وحافظاً لواقع "لا غالب ولا مغلوب".

لكن بالمقابل.. سنجد أن فرعون مصر الذي زعم لعقود طويلة أنه إله قومه وربهم الأعلى قد وقف يومها حائراً مرتبكاً أمام براهين موسى التي أسقطت دعوى ألوهيته فبات يتوعد ويتخبط في آن واحد مخافة أن تكشف حقيقته ويفقد كل شيء.

واليوم كذلك، وبعد أن أذعنت أطراف الصراع في الجنوب إلى دعوة المملكة للحوار وتمكن طرفاً الدعوة بالفعل من التوقيع على اتفاق سياسي ترعاه وتضمنه السعودية إلا أن تعثر تطبيق ذلك الاتفاق عملياً أعاد إلى الأذهان زيف دعاوى فرعون في جدوى بسط سلطته وتأكيد سطوته، إذ بات من المستغرب اليوم حقاً أن نشاهد الراعي الأوحد والمتعهد الإقليمي الأبرز وهو عاجز كلياً ربما في إنفاذه ولو بنداً واحداً من بنود الاتفاق الذي يشمل حليفيه المحليين على الرغم من انقضاء المدة الزمنية الخاصة بتنفيذ ذلك الاتفاق.. فكيف إذن سيتمكن حينها من جلب خصومه إلى طاولة الحل السياسي؟ نحن بالفعل أمام عجز ماثل وفشل قادم قد يهز أركان الصورة الفاضلة التي رسمها السعوديون لأنفسهم بداخل ملف الصراع اليمني.

في الواقع يبدو فعلاً أن السعوديين يعيشون اليوم مأزقاً حقيقياً أربك حسابات وتصورات كانت ملازمة لهم طيلة سنوات الحرب الماضية.. فالتطورات الأخيرة شمالاً قد خلقت بلا شك عبئاً آخر وخلفت فشلاً جديداً يضاف إلى كومة الإخفاقات التي رافقت عمل التحالف وإدارته لملف الأزمة اليمنية، كما أن مزاعم معظم القيادات السياسية والعسكرية الشرعية باتت مؤخراً على المحك وربما مفضوحة إلى حد كبير في حقيقة إخلاصها وولائها للتحالف، وخصوصاً بعد دراما غزوة نهم ودورة الاستلام والتسليم التي حدثت هناك مع الحوثيين العدو المشترك كما يفترض.

إذن يبدو بالفعل إن الارتدادات والانكسارات المتلاحقة قد شقت طريقها في جسد التحالف وربما أضحت تهدد بالفعل إمكانية صموده أكثر أمام كل هذه التقلبات والمستجدات من مساوى الحسبة الخاطئة له.
الأمر الذي سيدفع ربما إلى ضرورة تدخل الكبار من حلفاء التحالف نفسه لوضع حد أو بالأصح لإنقاذ حليفهم الأهم في المنطقة والإقليم. فالأمريكان والبريطانيون كما يبدو لن يسمحوا أبداً بأن تستهلك السعودية كلية في مستنقع الصراع اليمني.. ثمة ملفات وأدوار أهم، يحتاج هؤلاء من السعودية لأن تلعبها مستقبلاً بالمنطقة لذا وإن تثاقلتا قليلاً لكن محال أن تتخلى أية من أميركا أو بريطانيا عن السعودية وتركها وحيدة.

التصريحات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة "جويتروس" والتي وصف خلالها الوضع في اليمن بالمحرج وأنه بات ينازع في العناية المركزة سلطت الضوء مجدداً حول أداء التحالف وجدوى التفويض الأممي له بحل أزمة اليمن، لاسيما بعد مرور أكثر من أربعة أعوام على ذلك التفويض دون أي تقدم أو خرق حقيقي في هذا الملف.

اللافت هنا أن المشكلة لا تقف عند وصف جويتروس للوضع بالحرج، بل حين تتعدى ذلك إلى قوله أن السعودية باتت بصدد تقليص عملياتها العسكرية في اليمن، إذ كيف يلتقي هنا أن البلد المفوض أممياً بدأ علنياً بتخفيض حضوره العسكري فجأة في حين أن السبب والوضع المفوض لأجله ازداد حرجاً وسوءاً؟ فما سر هذا التناقض العجيب إذن؟

لكن وبقراءة سريعة لما بين سطور تلك التصريحات الأممية سنجد أننا بالفعل بتنا أمام تدخل من نوع آخر يقابله إعلان أممي مبطن بفشل السعودية، وربما قرب نهاية دورها الحصري فيه على غرار مغادرة الحليف الإماراتي قبلها للمشهد هناك.
فهل اكتملت إرهاصات انسحابها الحتمي عن مشهد الصراع؟ خصوصاً وأن المملكة قد حققت بالفعل معظم مطالبها وبضمانات دولية حينما يتعلق الأمر بأمن حدودها ووقف هجمات الحوثيين الصاروخية باتجاه أراضيها مقابل وقف عملياتها الجوية واعترافها بسلطة الانقلاب سياسياً.

لا شك أن حظوظ التدخل الخارجي لقوى دولية بعينها باتت أقرب اليوم من أي وقت مضى كضرورة ملحة جلبتها حالة التخبط والتعثر المتكرر في الأداء السعودي باليمن شمالاً وجنوباً.. فهل سنشهد قريباً إقراراً سعودياً بعجزه عن الاستمرار وبالتالي إفساحه المجال كاملاً أمام شركائه الدوليين لوضع سيناريو الختام الخاص بهذه الأزمة؟ أم أن النظام السعودي سيلجأ إلى المناورة والتعنت الفرعوني أكثر وبالتالي عودة شبح السيناريو السوري مجدداً إلى اليمن؟ لا نعلم تحديداً ما هي النوايا السعودية بهذا الشأن؟ وما هو مطروح حالياً على طاولة خياراتها للتعاطي مع المستجدات الأخيرة للأزمة؟.. عدا أن المؤكد هنا أن لا وقت ولا خيارات عديدة باتت تدعم تماسك الدور السعودي لأكثر من بضعة أشهر خاصة في ظل تعقيدات المشهد الراهن على الساحتين المحلية والإقليمية.

"عين العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى