تعز.. معركة «الإصلاح» التي مزقت النسيج الاجتماعي لليمن

> كيف هرب هادي إلى عدن؟ ومن أمر بقصف قصر معاشق؟

> مصطفى النعمان
كانت تصرفات جماعة "أنصار الله" الحوثية تبرهن على أنهم غير معنيين بأي عمل في إطار الدستور اليمني القائم، وكانوا يمارسون مبكراً سلطة أمر واقع لا تلتفت إلى أي اعتراضات أو ملاحظات، وعلى الرغم من محاولات الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إقناعهم بدعوة مجلس النواب إلى الانعقاد، لكن مسألة الالتزام بالإجراءات الدستورية ما كانت ذات قيمة عند قياداتهم الشابة التي لم تكن تمتلك الحنكة الكافية لإدارة البلاد بصورة أقل عنفاً وتسلطاً، كما أن خشيتهم من دهاء صالح ومناوراته ضاعفت من مخاوفهم إزاء نواياه.

حصار المجلس
حاصرت ميليشيات جماعة "أنصار الله" مجلس النواب ومنعت أعضاءه من الوصول إليه، واستمرت في تعيين أنصارها مشرفين على مؤسسات الدولة ليصبحوا أصحاب القرار والنفوذ داخلها، وفي الوقت ذاته كانت تواصل إحكام قبضتها على معسكرات الجيش والمؤسسة الأمنية، واستسلم الجميع -عدا أصوات قليلة- للأحداث، وظل الرئيس معتقلاً في منزله وكذلك رئيس حكومته، ولم ينتبه الحوثيون إلى أن أفعالهم ستثير الانزعاج والمخاوف، وبالغوا في تقدير رد فعل الإقليم على التباهي بعلاقتهم بالحكومة الإيرانية.

في بدايات يناير 2015 تحركت ميليشيات "أنصار الله" جنوب صنعاء وصولاً إلى تعز، التي كان دخولهم إليها غير مقنع سياسياً واستفز مشاعر كثيرين من أبنائها، وكان الغطاء الذي استخدموه هو محاربة "الدواعش" كما كانوا يسمون كل خصومهم. وعبثاً حاول محافظ تعز حينها شوقي هائل تجنيب المحافظة الصراع المتوقع بينهم وبين ميليشيات "الإصلاح"، التي كانت تمثل قوةً لا يُستهان بها، لكن الإعلام في الطرفين تمكن من تحويل المعركة بينهما إلى منزلق طائفي "مذهبي" استخدما فيه كل مفردات الكراهية.

كانت المعركة في تعز مدمرة ومزقت النسيج الاجتماعي على امتداد اليمن، وكان الاستقطاب فيها واضحاً ولا يمكن أن تخطئه العين، وكان حزب الإصلاح متمسكاً بمعركة عسكرية لإخراج الميليشيات القادمة من خارج تعز، وعرقل كل المساعي التي بذلها شوقي هائل للتوصل إلى حل يحفظ المدينة من الدمار، لكنه بقي وحيداً في مواجهة أزمة لا يمكنه السيطرة على مساراتها، فاضطُر للاستقالة بعد تعرضه للضغوط من كل الأطراف الحزبية ووجد نفسه محاصراً ففضّل العودة إلى أعماله التجارية.

معركة مصيرية
معركة تعز كانت مصيرية بالنسبة إلى حزب "الإصلاح"، إذ لا بُد أنه أدرك أن وجوده في المناطق القبلية الشمالية - الزيدية تاريخياً – قد تضاءل وخرجت من تحت سيطرة نفوذه، الذي كان في الأساس يعتمد على تغلغله في المجتمع القبلي عبر مشايخه الذين كانوا مرتبطين به لفترات طويلة. وهكذا مثلت تعز منطقة لا يمكنه التخلي عنها تحت أي ظرف لأنها كانت ستمثل نهايته السياسية، وتمكن من حشد الكثيرين داخلها ضد الوجود الحوثي القادم من خارجها، مستدعياً ذاكرة التاريخ الذي تمثله قبائل الشمال في أذهان الناس في المناطق الشافعية وخصوصاً تعز. وفي الوقت ذاته كان "أنصار الله" يرون أن السيطرة على المحافظة ستمكّنهم من محاصرة المحافظات الجنوبية وصولاً إلى عدن، بعدما أحكموا قبضتهم على الشمال.

لم تتوقف الإجراءات السياسية الأحادية التي يتخذها "أنصار الله"، ففي نهاية فبراير 2015 أعلنوا عن اتفاق بين الخطوط اليمنية وإحدى شركات الطيران الإيرانية على تسيير 28 رحلة أسبوعياً بين طهران وصنعاء، وكان أمراً مثيراً للاستغراب، إذ لم يكن هناك من سبب تجاري للأمر، فليست للبلدين علاقات تستدعي هذا العدد من الرحلات، وإن كانت "الجماعة" بررته بأنه لكسر العزلة التي فُرضت على مطار صنعاء بعد اعتقال الرئيس هادي، ولم يكن ذلك مقنعاً إلا أنه دل على عدم إدراكهم أن مفهوم السيادة لا يقتصر فقط على حرية اتخاذ القرارات السيادية، بل يصبح خطراً إذا لم يراعِ مخاوف الجوار وتأمين الحدود.

الاستئثار بالسلطة
كانت سرعة توالي الأحداث تنبئ بأن "أنصار الله" ينوون الاستئثار بالسلطة منفردين، وفي أفضل الأحوال مع شركاء لا تأثير لهم على الأرض. ولم يتوقفوا عن تجاهل كل القوانين والأنظمة، ومارسوا قسراً كل السلطات تحت غطاء الإعلان الدستوري الذي أصدروه في 6 فبراير 2015، والذي حُلّ بموجبه مجلس النواب وشُكِلت "اللجنة الثورية العليا" برئاسة محمد علي الحوثي، ولم تقبل الأحزاب الرئيسية المشاركة فيها. واستمرت الحكومة التي شكّلها خالد بحاح المحتجز في منزله بممارسة أعمالها بمَن تبقى من الوزراء الذين قبلوا الاستمرار في أعمالهم، وارتبكت مؤسسات الدولة، وصارت أوامر "المشرف" وتوجيهاته هي التي تحدد نشاطاتها وأعمالها.

شكّل الإعلان الدستوري واللجنة الثورية العليا محاولة للحصول على شرعية تتيح لجماعة "أنصار الله" تسيير أعمال الدولة وإغراقها بالتعيينات، ولكن ذلك لم يكن كافياً للحصول على قبول شعبي أو خارجي. وفي خضم هذه الإجراءات شكّل توقيت هروب الرئيس هادي من صنعاء مفاجأةً كبيرة غيّرت موازين المشهد السياسي، لأنه كان في اليوم الأخير الذي بعده تصبح استقالته مقبولة دستورياً دونما حاجة إلى انعقاد مجلس النواب لإقرارها، وليس محتملاً أن يكون هو مَن أشرف على الترتيبات.

بعد وصول الرئيس هادي إلى عدن لحقه عدد من الوزراء والقيادات السياسية، بينما بقي في صنعاء رئيس الحكومة خالد بحاح، الذي سعى الحوثيون خلال فترة احتجازه إلى إقناعه بتولي "مجلس رئاسة"، إلا أنه رفض كل العروض لإصراره على عودة الأوضاع الطبيعية ثم البحث في البدائل التي ترضي كل الأطراف. وأفرج عنه الحوثيون في 16 مارس 2015 بعد وساطات مجتمعية كان أبرزها جهود أمين العاصمة المرحوم عبد القادر هلال، الذي استُشهد مع قيادات أخرى في حادثة قصف صالة عزاء بصنعاء في 8 أكتوبر 2016، وخلال تلك الفترة لم تجر أي اتصالات ذات طابع رسمي بين هادي وبحاح عدا اتصالات الأخير للاطمئنان على صحة الأول.

غادر بحاح صنعاء للمرة الأخيرة إلى حضرموت، ووصلها بعد ثلاثة أيام من إطلاق سراحه، ثم توجه في 24 مارس 2015 (قبل يومين من انطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس) إلى الولايات المتحدة التي كان تركها بعد استدعائه لتشكيل الحكومة، حيث كان حينها مندوباً لدى الأمم المتحدة. ومرةً أخرى كان المشهد السياسي يزداد ارتباكاً ولم يتمكن السياسيون من التعامل مع الموقف. وشكّل انتقال الرئيس إلى عدن بدايةً لتأسيس حالة بلا سابقة يمكن الاعتماد عليها، أو الاستئناس بها لإيجاد مخرج مقبول للجميع.

هروب هادي
قبل هروب الرئيس هادي إلى عدن كانت السفارات العاملة في صنعاء قد أغلقت أبوابها وعلقت أعمالها اعتراضاً على سلسلة الإجراءات التعسفية التي اتخذتها جماعة "أنصار الله" وبخاصة اعتقال الرئيس ورئيس الحكومة والوزراء وعدد من قادة الأحزاب وأيضا القرار الذي سموه "الإعلان الدستوري"، إذ شكّل تأكيداً على عدم اعترافهم بالدستور القائم وكذا الإعلان الصريح عن السيطرة على مؤسسات الدولة تحت غطائه، وأثار قلقاً شديداً عند المتشككين في نوايا الجماعة وخصومها المذهبيين والسياسيين.

كان مثيراً وصاعقاً الإعلان عن وصول الرئيس هادي إلى عدن، فقد أحدث ارتباكاً عند خصومه الذين كانوا يتصورون ويرغبون في طي صفحته السياسية على قمة الدولة، وسيظل السؤال الذي يبحث عن جوابٍ مقنع هو كيفية تمكنه من الهروب في 20 فبراير 2015، ومن أسهم في ذلك ورتّب عملية كسر الطوق الأمني الذي كان يحاصر منزله منذ 21 يناير، وقد أكد لي أحد كبار القادة الأمنيين من الذين عملوا معه أنه كان عنده في مساء اليوم السابق في "مقيل القات" (ملتقى لمناقشة القضايا) من دون أن يشعر بوجود نيّة أو رغبة لدى الرئيس للهروب، خصوصاً أن حالته الصحية لم تكن تسمح له بالمجازفة وتحمل معاناة طرق كان الحوثيون يراقبونها، وأضاف أنه لحق بالرئيس صباح اليوم التالي، حين تأكد من وصول هادي إلى عدن.

لم يتمكن النواب من عقد اجتماع لاتخاذ قرار بقبول أو رفض الاستقالة، لأن مسلحي "أنصار الله" حاصروا مقر المجلس لمنع الانعقاد لشعور الجماعة بالقلق لعدم قدرتها على التحكم بالقرار، ولربما كان خروج الرئيس من صنعاء قد خفف العبء الكبير عنهم، إذ إنهم كانوا في الأصل يعتمدون على قوتهم المسلحة في فرض الأمر الواقع داخل العاصمة وخارجها، وهكذا توزعت الأسئلة المثارة حول هروبه وتعددت إجاباتها، فقيل إن شيخاً قبلياً تمكن من رشوة الحراسات القليلة التي كانت تحيط بالمنزل، وآخر يقول إن الرئيس تنكر في زي امرأة وخرج بهدوء لأن الحراسات الحوثية لم تكن تدقق في هويات النساء، وظل الحوثيون على موقفهم بعدم السماح بانعقاد جلسة لمجلس النواب تسمح بانتقال السلطة إلى هيئة رئاسة المجلس الذي يسيطر عليه صالح.

وكما ذكرتُ سابقاً، فإنني أتصور أن هروب ثم تراجع الرئيس هادي عن استقالته في خطاب مذاع لم يسببا انزعاجاً كبيراً لدى "أنصار الله"، لأنهم تصوروا أن تفاهماتهم مع علي عبد الله صالح كافية لضمان عدم خروجه من عدن، لأن أغلب القوات الموجودة هناك كان تحت إمرة قيادات أمنية شمالية تدين بالولاء لصالح، واعتقدت الجماعة أنه سيكون من الصعب إحداث تغيير جذري في المشهد السياسي القائم الذي فرضوه على الجميع وأنهم سيتمكنون من خلاله من تثبيت الأوضاع بما يسمح لهم بالسيطرة على كافة الرقعة الجغرافية اليمنية، وبرهنت الأحداث التي تلت وصول هادي إلى عدن على أن الشأن اليمني قد خرج من الحالة المحلية ليصبح قضية إقليمية تلاشت معها مساحة القرار اليمني.

ولم يكن للرئيس الحماية الكافية لتأمينه داخل عدن وكان المعسكر الأهم فيها هو التابع لقوات الأمن الخاصة التي يقودها العميد عبد الحافظ السقاف، وبطبيعة الحال لم يكن هادي يثق فيه، وفي محاولة لتغيير ميزان القوة في المدينة وتأمين حمايته أصدر قراراً في 3 مارس 2015 بإقالته وتعيين العميد ثابت جواس بدلاً عنه، لكن السقاف رفض تنفيذ أمر تسليم المعسكر وكان ذلك إيذاناً بمعركة داخل عدن أرسل لها الحوثيون المزيد من المقاتلين والعتاد في محاولة مستميتة لإحكام السيطرة على المدينة واللحاق بهادي للتأكد من بقائه داخلها، وانتشرت معلومات شبه مؤكدة عن استخدام مطار تعز لنقل العتاد والمزيد من القوات.

وكانت الأحداث في شهر مارس تتلاحق بصورة متسارعة وعاشت القيادات السياسية والاجتماعية خلاله حالة تيه متجددة واضطراب لم تكن تبدو معه أي مؤشرات في الأفق لتراجع الحوثيين أو لاستسلام الرئيس هادي، وارتفعت حدة التحذيرات وأشهرها الصادر من السعودية على لسان وزير خارجيتها الأمير الراحل سعود الفيصل، بأن تحركات الميليشيات العسكرية في اتجاه عدن ستكون تجاوزاً للخطوط الحمراء بعد وصول الرئيس إليها واتخاذها مقراً مؤقتا للحكومة.

تجاهل الحوثيون الإشارات التي توالت من عواصم خليجية وعالمية، ولم يدركوا أن تغيير موازين القوى في أي رقعة جغرافية داخل وخارج الإقليم من دون اتفاق وتوافق غير مسموح به ولن يمر من دون تدخل، وظل الرئيس هادي في عدن صامتاً، ولم يكن أحد يشعر بما يشير إلى أكثر من التنديدات الصادرة من كافة الاتجاهات ودعوات مجلس الأمن بضرورة السماح بعودة الرئيس إلى العاصمة صنعاء وتسليم المؤسسات التي استولت عليها جماعة "أنصار الله"، ولكن الهدف السياسي النهائي بالانفراد بالحكم بالأسلوب الذي كانت تنشده والعناد المقرون بقلة التجربة السياسية وعدم فهم طبيعة العلاقات الدولية والإقليمية، كانت كلها تدفع نحو تأزيم للحالة اليمنية بصورة غير مسبوقة وصارت عواقبها كارثية فيما بعد.

استُنفرَ الإقليم وعواصم الدول الكبرى لمتابعة تحركات الميليشيات الحوثية، وحاول الجميع معرفة مدى عمق التفاهمات بين "أنصار الله" والرئيس السابق صالح، وكانت الشكوك تتصاعد حول دوره في دفعهم نحو الجنوب ومقدار الدعم الذي يمكن أن يقدمه لهم عبر من تبقى من قيادات عسكرية ومحلية في المناطق التي أرسلوا مسلحيهم إليها، ومرة أخرى لم يضع "أنصار الله" في حساباتهم قلق الرياض ومخاوفها من طبيعة علاقاتهم مع إيران.

وزادت المخاوف الإقليمية مع تصاعد لغة التصريحات التي كانت وسائل الإعلام الإيرانية تطلقها ثم تكررها تلك المحسوبة عليها في المنطقة، بأن صنعاء صارت العاصمة الرابعة التي تسقط في يد حلفائها بعد بيروت ودمشق وبغداد.

وبغض النظر عن جدية تلك التصريحات من عدمها، فإن وسائل الإعلام التابعة لـ "أنصار الله" لم تحاول طمأنة الرياض، بل على العكس كانت لهجة العداء والاستعداء مرتفعة والتطرف بالحديث عن استعادة القرار اليمني والسيادة ومنع التدخلات الخارجية في القرار اليمني، وهما مبدآن لا يختلف حولهما أي إنسان محب لبلاده، لكنهما يتطلبان أيضاً الحصافة في الطرح وعدم استفزاز الجيران والعمل على تهدئة مخاوفهم، وليس استخدامهما لأهداف تسبب الكوارث للبلاد.

وبعد فشل محاولة عبد الحافظ السقاف فرض أمر واقع في عدن، انطلقت مقاتلات يمنية في 19 مارس 2015 لتقصف مقر الرئيس هادي في "معاشق" وصارت حياته في خطر أكبر من الفترة التي كان محتجزاً فيها بصنعاء، ومن غير المعروف حتى الآن الجهة التي أعطت الأمر للمقاتلات بالهجوم، ولماذا أرادوا التخلص منه في عدن في حين كان بين أيديهم في صنعاء.

هكذا بقي هادي في عدن مع عدد قليل من كبار المسؤولين وأفراد أسرته والمقربين.

"إندبيندت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى