خيبة فبراير 3 - 3.. المــآل

> د. أحمد سنان

> أطل فبراير على البلاد راكبا كومة كبيرة من المعضلات والمتغيرات العاصفة التي شملت المنطقة العربية كلها.

من تونس بدأت القصة الربيعية كلها، البوعزيزي أحرق نفسه احتجاجا على ظلم فادح طاله، وهذه صرخة مدوية ضد غياب العدالة، لا ريب في ذلك. هذه القصة الفاجعة غزت العالم بصورة المشيم الملتهب وسرعة لا يستوعبها عقل، مع العلم أن محمد بوعزيزي ليس أول من أحرق نفسه تعبيرا عن الرفض، فقد سبقه أحد الجنود اليمنيين بإحراق نفسه مطلع التسعينات احتجاجا على عدم تسليمه مرتبه.

هذا الفعل الاحتجاجي وافقته حساسية ومسئولية اجتماعية عالية دفعت بالشعب التونسي إلى الشوارع والميادين العامة، وخرجت صيحة "هرمنا"، دوت الصرخة ففهم بن علي المطلوب منه.
انتقلت العدوى إلى مصر ليعلن المصريون في 25 يناير2011، أنهم قد هرموا كذلك، كغيرهم من الشعوب العربية التي ذبحها القهر السياسي والاقتصادي. تلكأ مبارك قليلاً لكنه أدرك حقيقة أن نجمه أفل فتنحى في 11 فبراير، يبرز الإخوان بأنهم القوة المحركة للشارع، قبل أن تتغير الصورة لاحقا.

لكن الربيع لدينا ظهر أنه متقلب لا يستقر على حال. خرج الشباب أولا مطالبين بالتغيير معبرين عن الهرم الكبير، فنحن شعب كأطفاله يشيب عند الفجر.
إذا، في 14 يناير 2011 خرجت المظاهرات في حضرموت، وفي 18 منه قمعت المظاهرات المحتفلة بانتصار الثورة التونسية في كل من صنعاء وعدن، وفي 21 يناير طلائع الشباب في تعز خرجت تظاهرة كبيرة، و22 يناير استشهد أول شهيد لعام 2011، في مسيرة لقوى الحراك في عدن هذه هي الحقيقة.

ثم تداعت الجموع في كل أنحاء البلاد تردد صدى ذلك، لم تأت دعوة المشترك للخروج في الثالث من فبراير 2011، إلا تحصيل حاصل لما هو موجود أصلا على الأرض. وهنا يمكن التأكيد أن خروج الناس بالأساس كان عفويا بفعل الضغوط الحياتية المتصاعدة الناجمة عن تفشي وباء الفساد متعدد الأذرع. في السادس عشر من فبراير كذلك ظهرت تحركات شبابية في منصورة عدن لتعلن أنها ثورة شبابية.

وبسبب الصورة الذهنية التحفيزية التي نقلها الإعلام عن الحركات الجماهيرية في كل من تونس ومصر.
نركز قليلاً الآن. لدينا، يناير 2011، 03 فبراير 2011، 16 فبراير 2011. فلماذا تم إطلاق تسمية ثورة 11 فبراير على الثورة الشبابية إذا؟

لا يتميز يوم 11 فبراير 2011 في صنعاء بأي ميزة تجعله يوماً للثورة.
تعرف الثورة المصرية بثورة 25 يناير 2011، وهي رمزية وطنية مصرية لا يشارك مصر فيها أحد. وكذلك هو الحال بالنسبة للثورة في تونس تنسب ليوم 17 ديسمبر 2010.

من الذي اختار يوم 11 فبراير؟
نحن لا نعرف قطعا الشخص الذي اقترح لكن الجهة معلومة. لكن بعضنا اندفع للاعتقاد أن مصالحة خفية جرت بين بعض القوى السياسية في صنعاء وتنازل بعضهم للبعض، أو ربما اعتذر بعضهم للآخر أو شيء من هذا القبيل، المهم أن هذه التكهنات حول تسمية يوم الثورة الشبابية كانت جميعها تصب في مجرى وطني صرف، وكانت هذه التكهنات قد اتفقت أن كل القوى التي تصالحت -طبعاً لا يوجد تفسير كيف- وأنها نتيجة تلك المصالحة اتفقت إلى اعتبار يوم تأسيس الجبهة الوطنية الديمقراطية في 11 فبراير 1976 هو يوم للثورة ضد النظام، بل هناك من ذهب به الخيال للقول إن الاختيار بسبب يوم الشهداء في الجنوب، وأنه جزء من مبادرة كبيرة لجبر خواطر الجنوبيين.

لكن كل هذه التكهنات ذهبت أدراج الرياح، فقد تبين لاحقا أن الاختيار ذلك ليس لمرجعية وطنية وتعبير عن حسن النوايا، بل إنه فرض من طرف أو أطراف لا تعتبر الثورة الشبابية السلمية إلا فرعا للأصل في القاهرة. ولذلك تم اعتبار يوم سقوط مبارك يوما الثورة في اليمن.
كان هذا أول سقوط ناعم لثورة الشباب السلمية، لكنه سقوط لوطنية الخيار والاتجاه والقرار القادم.

بين يناير و16 فبراير وإحلال الحادي عشر من فبراير بينهما، لا يعبر فقط عن اختلاف إجرائي أو شكلي حدث مصادفة، بل هو تعبير عن اختلاف مفاهيمي وقيمي لمضمون الثورة نفسه واختلاف جوهري في طبيعة المشروع القادم للدولة وماهيتها.

عندما بدأ مسلسل نصب الخيام في ساحة الجامعة أرادت القضية الجنوبية أن تكون حاضرة بمسماها "خيمة القضية الجنوبية"، هنا جن جنون البعض رفضا لكل ما يذكر بالقضية الجنوبية بل وصل الأمر حد الاعتداء بالضرب على الشباب الذين قاموا بهذه المبادرة وتحطيم أعمدة الخيمة لمرتين، والقبول فقط بخيمة تحمل مسمى "ملتقى أبناء الجنوب"، وهذا سقوط آخر لشعارات الثورة التي جاءت للتعبير عن حق الاختيار أولا وأخيراً.

ثم جاءت جمعة الكرامة 18 مارس 2011 لتضع الحد الفاصل بين الثورة الشعبية السلمية والتطلع للسلطة من جانب طرف والحفاظ عليها من الطرف المقابل ولو على جماجم كل الناس.
لحد هذه اللحظة ترفض جميع الأطراف إجراء تحقيق احترافي ومحايد لما جرى في ذلك اليوم، لدى كل طرف معتقلون على ذمة مجزرة الكرامة.

لحد الآن لا نعرف مصير المتهمين الذين تم اقتيادهم إلى الفرقة الأولى مدرع، ولا نعرف أين معتقلو الطرف الآخر.
غاب الطب الشرعي في كل حالات الموت اختناقا، لم نعرف حتى الآن أسباب تلك التشنجات العصبية الشديدة والمخيفة وحالات الهستيريا الغريبة التي كانت تنتاب الجرحى والمصابين، وكذلك لا يوجد تفسير منطقي وعلمي لتلك الرغوة الكثيفة التي كانت تنطلق من أفواههم، وهي حالات لم نجد لها ما يماثلها في أماكن أخرى.

عندما انطلق شعار "لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس " حدس كثير من المثقفين الذين اعتادوا الساحة أن الثورة التي تأملوا فيها كثيراً دخلت توا منعطف اللا عودة.
أي ثورة هذه التي تسعى للتجهيل، بينما الشعب والشباب على وجه الخصوص ينشدون المستقبل، التجهيل يعيدنا للماضي، يجعلنا نسير القهقري، لا نعرف نحو أي عصر.

لقد تجلى أمامهم المشروع واضحا، هو الانتصار لقيم الماضي بكل حذافيره. لقد أدرك كثيرون أن هذه الثورة لن تكون أكثر من عملية جراحية للنظام القائم يستأصل فيها جزء منه ويحفظ الآخر، فغادروا ساحتها متأسفين لأنهم تعرضوا للاستغفال مجددا.
لقد انشطر النظام إلى قسمين قسم يدعي الثورة والآخر يدافع عن نفسه، تمت عملية شخصنة الثورة، لتتحول إلى مجرد خلاف أسري بين عائلتين لا أكثر ولا أقل، جميع الشراكات تنتهي بهذه الطريقة عندما تنتهي المصلحة الجامعة.

كل مؤسسات النظام انشطرت ولا نعلم إلى كم أشطار... الجيش انشطر بوضوح لنعلم مأزق البلاد على الواقع. لم يكن جيش في الواقع ... لكل طرف في النظام المشطور كان له جيشه الخاص... فأين الدولة؟
الثورة الحقيقة لا تفتح غرف اعتقال وتحقيق...و. الثورة الحقيقة لا تحتكر فيها أحد الأطراف كل أدوات الاتصال والإعلام والتعبير، الثورة الحقيقية تفتح كل الأبواب المغلقة لأنها "فصل من التاريخ القديم، الذي يخلق تاريخًا جديدًا، بسبب صحة بداياته وأهدافه الرئيسية" على حد تعبير البردوني.

لا يلتقي فكر الثورة مع فكر الإرهاب، هكذا تعلمنا من غاندي ومانديللا. عندما تجتمع صور الإرهابيين والشهداء في مكان واحد، وعندما تفترش أدبيات ومراجع التنظيمات المصنفة إرهابية المكان، عليك أن تبحث لنفسك عن ركن قصي، هروبا من كل هذه المتناقضات.
كانت أبين تئن من وجع الحرب مع أنصار الشريعة، ويسمع الأنين إلى كل مكان، ومع ذلك كان الثوار يرفضون المشاركة مسيرات التنديد.... لماذا؟

لا يزال السؤال يبحث عن إجابة...

وحتى بيانات هيئة العلماء لم تسم أنصار الشريعة في بياناتها بالاسم، ولم تصفهم بالإرهابيين، هذا لا يثير تساؤلات عند الكثيرين.

شهداء.... وشهداء...

أخذت أموال الدعم للثورة تتقاطر من عواصم عدة، لكن هذا الدعم لم يكن لثورة الشعب، للشباب بصفة عامة، لم يكن كذلك أبداً. لقد وصل لأيد محددة سلفا.
مال الدعم المالي لا يعرف أحد حجمه، لم ينتخب الثوار لجنة لإدارته، صحونا ذات يوم وقد ولدت لجنة مالية هي المتصرف الوحيد.

كيف تصرف الأموال وعلى من ومتى وكيف؟ لا أحد عنده فكرة.
شاهدنا موائد عامرة أمام البعض وشاهدنا آخرين يتضورون جوعا. كثير من شباب البلاد ذاق الشهادة جائعا، بينما كان بعضهم يجد علبة الزبادي ورغيف العيش بصعوبة عبر بعض المتبرعين.

لابد أن تذوي أي ثورة يكون الثوار فيها طبقات... لابد للكثيرين أن يعودوا إلى منازلهم.

الحرائر في مرمى القذف
كان الرئيس صالح أول من شنع على تواجد النساء في ساحة الجامعة "وحذر من عواقب الاختلاط" بعد أن همس أحدهم في أذنه، على الرغم أن ساحة التحرير المؤيدة له لا تخلوا من النساء هي أيضاً.
تلقف حميد الأحمر رسالة صالح وشنع على نساء الثورة بطريقته الخاصة بلغ أرها القضاء، بل تجاوز الأمر ما هو أخطر من ذلك. اعتدى جنود الفرقة على من كان "الإصلاح" يطلق عليهن الحرائر بالرفس بالبيادات وأعقاب البنادق.

يا للهول، أهذه هي الثورة التي كنا ننشدها إذا؟!!
تعلمنا من الثورة التونسية درسا بليغا، وتعلمت كذلك حركة النهضة التونسية قدرا معقولا من ممارسة الديمقراطية - برغم المساوئ التي تجري الإشارة اليها، لقد أدركت أن إقصاء الآخر لن يمر بدون ثمن باهض، للأسف لم نستوعب الدرس.

ولا زلنا نتعلم من الثورة السودانية في صراعها مع منظومة البشير والعسكر أن النفس الطويل هو ديدن الثورة، لكن فات أوان التعلم فقد صرنا الى مكب آخر.
في بلادنا انتهت ثورات ربيعنا إلى نكتة مؤلمة وجرح غائر.. عند الكثيرين أصبحت الثورة مهنة وهراوة على رؤوس الآخرين.

عندنا كان الصراخ عاليا نريد دماء... دماء .... ومزيدا من الدماء، ويتم تحريك مجاميع الشباب في أي اتجاه الهدف لا يهم، المهم أن يرى العالم أن الدماء تغسل الشوارع، حفلة الزار يليها جواب القرار أين القوات الدولية لماذا لا تأتي؟
هذا هو المآل كله، ثم يحدثونك عن مكاسب الشعب من فبراير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى