السعودية في خارطة السياسة الدولية!

> بدر قاسم محمد

> مطلع ثمانينات القرن المنصرم هبت رياح الإسلاميين شرقا، هبة قوية عصفت بالاتحاد السوفييتي فأحالته حطاما، لابد أن قوتها انبثقت من نواة فكرية قوية هي الأخرى صنعتها وعززتها إرادة سياسية كبرى وقوية، تلك كانت هي البداية غير معلومة النهاية، نال جنوب اليمن ذي النظام الاشتراكي الشيوعي نصيبه منها، حتى أن حرب صيف العام 1994م المعلنة من قِبل شمال اليمن الرأسمالي حليف الغرب على جنوب اليمن، هبت تحت مسمى "حرب الردة والانفصال"، لمفردة "الردة" معناها العقائدي العميق في التاريخ الإسلامي، فهي بمثابة فتوى دينية تعتبر حرب الشمال على الجنوب جائزاً شرعا، وهو سعي يثاب عليه المسلم لإقامة حد الردة والارتداد عن الدين الإسلامي على جنوب اليمن بوصفه مرتداً عن الإسلام!.

ما برحت هذه الهبة العاصفة للإسلاميين أن تستقر إلى منتهاها، حتى ارتدت هي ذاتها على الغرب أولا، من ثم أنظمة وحكومات المنطقة التي دعمت وجهتها شرقا، عندما اتجهت مستهدفة الغرب لم تكن قد وصلت بعد لوصف أنظمة وحكومات المنطقة بالعمالة للغرب، ظل هذا الحياد بين أنظمة المنطقة والإسلاميين محل ريبة وشك الغرب، كان لابد من وجود ما يثبت براءة أنظمة المنطقة التي دُفعت فيما بعد لملاحقة الإسلاميين ومحاربتهم مثلما دُفعت لتجنيدهم وإرسالهم شرقا، فاشتبك الطرفان ببعض، هذا وصفهم بالإرهابيين الواجب ضبطهم وإصدار عقوبات قانونية بحقهم، وذاك وصف الأنظمة بالعميلة المرتدة عن الإسلام الواجب قتالها بموجب النصوص الدينية!، لم يعد هناك شرق شيوعي عدو للإسلاميين، لقد صار الغرب وحلفاؤه هم العدو!.

في هذه الأثناء غزى الغرب دولة العراق واحتلها، ليدخل الإسلاميون ساحة العراق لمواجهة الاحتلال الأمريكي البريطاني، كوسيلة مواجهة، عمل الغرب خلال احتلاله للعراق على إنشاء قطبية إسلامية، شيعية - سنية، سرت عدواها وعداؤها الطائفي في المنطقة برمتها، يبدو أن الطائفية لم تفعل فعلها في حرف وجهة إسلاميي التنظيمات الجهادية العتيقة ضد الشيعة، بصفتهم سنة، لقد سبق عداؤهم للغرب العداء المتشكل بين السنة والشيعة.

بعبارة أخرى، لقد صيرت هذه العداوة المشتركة للغرب، من الإسلاميين الجهاديين وحركات المقاومة الشيعية، معسكراً شرقياً آخر، ليجد أنفسهم هؤلاء وهم يقتربون من دول المعسكر الشرقي البائد، ولتجد دول المعسكر الشرقي البائد فرصتها السانحة في الرد على الغرب بالمثل دون عناء ولا تعب، فجميع هذه الحركات العقائدية صناعة غربية ليس للشرق فيها يد، وبأريحية تامة يمارس الشرق سياسة اللعب عن بعد حتى هذه اللحظة!.

ربما قد يكون هذا رداً كافياً للسؤال الحائر: لماذا تقترب جماعات الإسلام السياسي ذات البعد العقائدي السني من جماعات الإسلام السياسي ذات البعد العقائدي الشيعي، لتشكلا معسكراً إسلامياً واحداً؟!
ثم لماذا تقترب هذه الجماعات في عدائها لما بات يعرف بالتحالف العربي في اليمن والمنطقة؟!

ثمة معسكر إسلامي في مواجهة معسكر عربي، أو ثمة معسكر شرقي في مواجهة معسكر غربي، مرا بمراحل نمو؛ منها:

مراحل العداء الطائفي بين السنة والشيعة:

المرحلة الأولى:
- استطاعت ثقافة العداء الطائفي بين السنة والشيعة، التأثير في جماعة الإسلام اللاسياسي "جماعة المنهاج السني السلفي القائم في السعودية والموزع على البلدان العربية" فقط، بينما جماعة الإسلام اللاسياسي "جماعة المنهاج الصوفي القائم في مصر والموزع على البلدان العربية" ظلت محايدة، رغم تضررها من محاولات الجماعة السلفية حشرها في زاوية عدائية واتهامها بالتشيّع، هذا من جانب، ومن جانب آخر تضررها من محاولات جماعات الإسلام السياسي حشرها في زاوية عدائية واتهامها بالوقوف إلى جانب السلطة ودعمها علمانية الدولة.

- عملياً انخرطت الجماعة السلفية في الحرب العدائية للجماعات الشيعية، بينما تقمصت جماعات الإسلام السياسي السنية دور العداء السني المستشري في المنطقة للجماعات الشيعية، فعقيدتها السنية حتمت عليها لعب هذا الدور الشكلي بغية الاستمرار في تدعيم صفوفها بعناصر المقاومة الإسلامية السنية، لتتشابه زاوية موقفها الملتبس مع زاوية حياد الجماعة الصوفية في الوقوف في المنتصف، لتصيبها هي الأخرى نيران العداء الطائفي الثنائي من الجانبين، فالجماعة السلفية لا تحبذ نهجها السياسي المتصل بالشيعة اتصالا قياديا، والجماعات الشيعية لا تحبذ نهجها العقائدي المتصل بالسنة اتصالا قواعديا!.

- شكلت هذه المرحلة البرزخية حبال حلبة صراع ثنائي، بطلاه، الجماعات السلفية والجماعات الشيعية، صاحبتا الظهور على حساب جماعات الحياد الشكلي، جماعة الإسلام السياسي والجماعة الصوفية!.

المرحلة الثانية والأخيرة:
- كانت خيوط الاتصال السياسي بين الجماعات الشيعية (بوصفها جماعات إسلام سياسي منذ الفطرة)، وجماعات الإسلام السياسي السنية، تتشكل بقوة إلى مرحلة وصولها النهائي (ما هي عليه اليوم من وضوح ومتانة)، في المقابل، كردة فعل، تستحضر الآن ضرورة اتصال جماعات الإسلام اللاسياسي ببعضها (الجماعة السلفية والجماعة الصوفية)، لتشكلا معسكراً مناوئاً معسكر جماعات الإسلام السياسية، يقف في صف المعسكر العربي في حرب دفاعه عن أمنه القومي المهدد بتمدد المعسكر الإسلامي للإقليم، خصوصاً وأن جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية معسكرة في صف المعسكر الإسلامي.

- لتشهد وقائع وأحداث هذه المرحلة، تشكل معسكر عربي في مواجهة معسكر إسلامي، أدواته الداخلية، إسلام لا سياسي في مواجهة إسلام سياسي، أخيرا يأخذ صراع المعسكرين عبر وسائل الدعم والإسناد الخارجي، شكل معسكر غربي في مواجهة معسكر شرقي!.

مثلت الأزمة اليمنية بطبيعة تدخل التحالف العربي، الذي تقوده السعودية، عسكرياً على خط المواجهة مع الجماعة الحوثية الشيعية، مسرحاً مناسبا لعملية تشكل المعسكرين، العربي ضد الإسلامي أو الغربي ضد الشرقي، في فترة سابقة كان للسعودية يد طولى في صناعة جماعات الإسلام السياسي في المنطقة لأسباب حينها وزمانها، ما زالت السعودية تحتفظ بهذه التجربة الطويلة من عمليات تصنيع الجماعات العقائدية الموالية لسياستها، مثل هذه التجربة تصلح فقط لصناعة إسلام سياسي، ولا تصلح لصناعة إسلام لا سياسي، لأن شرط صناعة الإسلام اللاسياسي هو عدم الولوغ في إناء السياسة والتزامه بالوقوف على شحذ عقيدة الدفاع العقائدي الوطني فقط، فليس من الجيد تغذيته بأي مبررات سياسية تبرر علاقة اتصاله المباشر بالسعودية على حساب تجاوزه المباشر لمصلحة وطنه الأم، فمبرر الدفاع عن عقيدة أرض الحرمين، تصلح للتناول العقائدي على أرض المملكة، ولا تصلح للتناول على أرض أخرى تمتلك أسباب وعوامل وطنية آنية تأتي العامل القومي السعودي والعربي بعدها، فهذا المبرر هو مبرر يصنع بتجاوزه عناصر تمتلك أفق الإسلام السياسي، ولا تمتلك أفق الإسلام اللاسياسي، فكأن السعودية تكرر طبيعة أدائها القديم مع جماعات الإسلام السياسي في واقع جديد يتطلب إستراتيجية أداء جديد في صناعة إسلام لا سياسي بطريقة غير مباشرة، طريقة بيوقراطية، تتمثل في صناعة إسلام لا سياسي مرتهن لطاعة قيادة بلده العربي السياسية، القيادة المصطفة في ظروف المصلحة المشتركة ضد عدو مشترك.

وهكذا تكون قد صنعت إسلام لا سياسي صحي وغير منفلت عن بعده العقائدي الوطني بصفته الحقيقية (إسلام لا سياسي) في محصلته النهائية كأداة مقاومة لخطر تمدد جماعات الإسلام السياسي المهدد للأمنين الوطني والعربي.

ينبغي على السعودية معرفة أنه عندما يتصدر العقائديون المشهد السياسي تميع القضايا الوطنية، ففي الحالة اليمنية، مثلما تجاوز عقائديو الشمال اليمني حدودهم الوطنية امتثالاً لإيران وتركيا سيتجاوز عقائديو الجنوب حدودهم الوطنية امتثالاً لها، فمواجهة العقائدي بالعقائدي، على أساس إسلام سياسي وإسلام لا سياسي، ما يثبط نجاحها هو عملية استحضار إسلام لا سياسي في الجنوب يتجاوز حدود الجنوب السياسية بذرائع عقائدية أشبه ما تكون سياسية، الإسلام اللاسياسي حتى لا ينحدر إلى منزلق السياسة، ويضيع من بين يديك، يجب أن لا يمتلك هذا الأفق العابر لحدوده الجنوبية الوطنية، أي يجب أن يكون إسلام لا سياسي صناعة وطنية أولا وقبل كل شيء، لذا فالحرص السعودي على ولاء الإسلام اللاسياسي في الجنوب لها يناقض مأسسة الإسلام اللاسياسي نفسها، وهو يطعمه أيديولوجيا الأفق الإقليمي الأبعد، من الأفق الوطني الأقرب، في سبيل ولائه واتصاله المباشر بالسعودية!، وكأن السعودية تصيره إسلاماً سياسياً آخر سيخرج عن سيطرتها لا محالة، ولها في خلافتها بجماعة الإخوان المسلمين السياسية تجربة مريرة ينبغي استحضارها ووضعها في الحسبان، يجب أن لا تطغى حسابات النظرة الآنية على حسابات النظرة الإستراتيجية، لتجد السعودية نفسها دائما كمن يربي الثعابين فيلدغ منها!.

إذا أرادت السعودية إسلاماً لا سياسياً صحياً في الجنوب لمحاربة جماعات الإسلام السياسي في الشمال؛ فعليها أن تضعه في سلة الإخلاص والولاء للقيادة الجنوبية الوطنية أولا، وتعمل على مأسسته وترويضه على هذا النحو، سيكون معها في سياق البعد الوطني والإستراتيجي الجنوبي كبعد عقائدي متحد وليس واحد!.
ومثلما على هذا الأساس تبنى العلاقات السياسية الإستراتيجية المتينة، وتدوم بين الشعوب والدول ويكتب لها الاستمرار والنجاح، لا ننسى أنه على هذا الأساس من المفترض أن تكون الإستراتيجية الجديدة لمقاومة خطر المعسكر الإسلامي بالمعسكر العربي، على قاعدة معسكر إسلام لا سياسي ضد معسكر إسلام سياسي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى