الجاسوسية صداع يؤرق تنظيم القاعدة في اليمن

> هشام النجار*

> عَكسَ الفرق بين تصرف قادة تنظيم القاعدة حيال الجواسيس قبل خمس سنوات وبين ما يتم انتهاجه اليوم، مدى ما حققه نشاط التجسس على التنظيمات الإرهابية المسلحة من نفوذ، خاصة مع تركيز الحرب ضد الإرهاب على استهداف قادة الجماعات المتطرفة عموما. وشكلت الجاسوسية على مدار سنوات إحدى المشكلات التي يعاني منها هؤلاء.

تحولت الجاسوسية إلى مشكلة لدى قادة تنظيم القاعدة، إلى درجة دفعت القائد الجديد للتنظيم في جزيرة العرب، خالد باطرفي، إلى إبداء المرونة مع الجواسيس وعرض الصفح عنهم، مقابل التوبة بعد أن شُوهد في أحد الفيديوهات قبل سنوات يقتل البعض منهم رميًا بالرصاص.

حرص خالد باطرفي على التذكير بمصير من سبقوا من الجواسيس عبر إعادة نشر لقطات لتنفيذ حكم الإعدام قتلًا بالرصاص في عدد منهم، وفي نفس الفيديو الذي أصدرته مؤسسة الملاحم الذراع الإعلامي للتنظيم تحت عنوان "هدم الجاسوسية" باللغتين العربية والإنجليزية عُرضت اعترافات بعض الجواسيس دون معاقبتهم، في محاولة لإظهار الترهيب والترغيب لأقرانهم للاعتراف مقابل العفو.

دفع الهَوس بالجاسوسية داخل صفوف القاعدة بعض أعضاء التنظيم المعارضين لتولية باطرفي لاتهامه بالمساهمة في قتل سلفه قاسم الريمي، بالاتفاق مع الأجهزة الأميركية، كما سبق أن شكك آخرون في الريمي نفسه الذي ظل فترة طويلة على رأس التنظيم دون استهدافه، ما عكس مناخ عدم الثقة الذي وصل إلى حد التشكيك في قيادات الصف الأول.

تكشف سياسة القاعدة الجديدة في التعامل مع الجواسيس انكشافا أمنيا غير مسبوق داخل دائرة القيادة عندما تحدث كل جاسوس عن أدواره وعن أسماء القادة الذين تسبب في قتلهم. إذ لا تتمكن الصواريخ المرسلة من طائرات الدرون الأميركية من الوصول إلى كبار قادة التنظيم إلا عبر تعاون من قبل جواسيس مدسوسين في صفوفهم عبر وضع الشرائح الإلكترونية التي تدلّ الطائرات المسيرة على أماكنهم.

أفلا يتوبون؟
ظهر الجواسيس في فيديو أخير حمل عنوان "أفلا يتوبون إلى الله" كخلايا نافذة داخل التنظيم وليسوا مجرد حالات فردية، ما دفع القيادة الجديدة لمحاولة اختراقها واحتواء أفرادها بعروض العفو العام وتسليم أنفسهم مقابل الأمان، في حين كان التعامل مع الظاهرة في السابق لا يحيد عن الإعدام رميًا بالرصاص.
انخفاض نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب باليمن والمنطقة، على الرغم من بداياته كأخطر فروع التنظيم الذي أسسه أسامة بن لادن، راجع للضعف الأمني والعسكري الناتج عن القضاء على أهم قادة التنظيم وكبار رؤوسه المدبرة.

وأثمر التعاون الجاسوسي وغارات الطائرات المسيّرة عن اغتيال أهم قادة القاعدة باليمن، وهو الفرع صاحب النصيب الأكبر من هذا النوع من الاستهدافات، بالمقارنة بعدد من تم اغتيالهم بنفس الوسيلة من قادة القاعدة في أفغانستان وباكستان والصومال وليبيا وسوريا والعراق.

واغتالت هذه الغارات التي تتوقف دقة تنفيذها على احترافية ووفاء العملاء على الأرض كبار المتخصصين في صناعة المتفجرات بفرع القاعدة بجزيرة العرب، وفي مقدمتهم إبراهيم العسيري، وعبدالله عوض المصري المكنى بـ "أبوأسامة المأربي"، كما أودت بحياة مسعد وعبدالله الظاهري، والقيادي النشط أنور العولقي وخالد باتيس وإبراهيم الربيش وجلال بلعيدي ونصر الآنسي وحارث النظاري، وغيرهم الكثير وصولًا لناصر الوحيشي وأخيرا قاسم الريمي.

يرجع حصد العدد الأكبر من قادة القاعدة باليمن إلى النفوذ الذي حققه التنظيم في هذا البلد صاحب الأهمية الإستراتيجية، ما مكنه عبر السيطرة على بعض المناطق بداية من 2012 وحتى العام 2015 أدار فيها ما يشبه الإمارة، من إقامة معسكرات للتأهيل الفكري والإعداد العسكري لحركة الجهاد العالمي.
صار اليمن وجهة الدرون الرئيسية بالتعاون مع جيش من الجواسيس على الأرض، نظرا لاتخاذه منطلقا لشن هجمات على الغرب وتهديد المصالح الأميركية ولتمركز قيادات به نُظر إليهم من جهة مقدرتهم على توحيد الجهاد العالمي، بالمقارنة بتراجع قدرات القاعدة المركزية في هذا السياق.

خارج التصفية
تسبب تراجع القاعدة في جزيرة العرب بتراجع إضافي للتنظيم عالميا بعد أن ارتبط اسم فرع القاعدة في اليمن بالعديد من الهجمات التي استهدفت المصالح الغربية، مثل الهجوم على المدمرة يو. أس. أس كول عام 2000، والهجوم على السفارة الأميركية في صنعاء عام 2008، ومحاولة تفجير الطائرة المتجهة إلى الولايات المتحدة عام 2009، والهجوم الذي استهدف مكاتب مجلة شارلي إيبدو الفرنسية عام 2015.

يقع خالد باطرفي، الذي تولى منصبه خلفًا لقاسم الريمي الذي أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مقتله في السابع من فبراير الماضي، تحت ضغط توقع استهدافه السريع بالنظر لنشاطه المكثف بوصفه المشرف على الشبكة الإعلامية للتنظيم بالمقارنة بنشاط الريمي، في حين لا يمتلك باطرفي رفاهية توجيه التنظيم إلى المحلية، أو إجراء تعديلات على تحالفاته وخطابه المُوجَه ليبقى خارج التصفية.

أمام باطرفي مهمة استعادة قوة وحضور التنظيم الذي يمر بأسوأ حالات ضعفه مدافعا عن رقعة صغيرة شمال غرب محافظة البيضاء، فيمَا التنظيم مشتت وقادته ملاحقون ومهددون بالطائرات المسيرة والجواسيس، الأمر الذي أثر على عدد العمليات التي يعلن عن مسؤوليته بتنفيذها، علاوة على تعقيد المهام الإدارية بسبب صعوبة التواصل، ما يفسر تأخر الإعلان عن اسم القائد الجديد للتنظيم.

لن يقدر خالد باطرفي، المكنى بـ "أبوالمقداد الكندي"، والذي تم تنصيبه دون إجماع في 23 فبراير الماضي قائدا لفرع القاعدة في اليمن على إظهار أي تحولات في أيديولوجية التنظيم وقناعاته كفرع عُقدت عليه الآمال لتدعيم خطط الجهاد العالمي، ففي هذه الحالة ستتعمق الخلافات ويزداد نفوذ من يتهمونه بعقد صفقة مع الأميركيين للقضاء على الريمي على أن يتم توجيه التنظيم في مسار مقبول لدى المخابرات المركزية الأميركية مقابل عدم استهداف باطرفي بالقتل.

ما يثير الريبة هو إقدام باطرفي بعد يومين فقط من تسميته قائدًا للقاعدة في اليمن على إظهار التعاطف مع الجواسيس وإعلان العفو الشامل عنهم مقابل التوبة، رغم فداحة الجرم الذي ارتكبوه والتسبب في القضاء على القوة الضاربة للتنظيم وعلى أمهر قادته وأكثرهم حرفة عسكريا وميدانيا.
اختراق التنظيم وزرع جواسيس أمر وارد، لكنه ليس سهلا على خلايا التجسس الوصول لصف القيادات، ولا يمكن أن تكون التصفية للقادة البارزين في التنظيم وقتل العشرات منهم بهذه السهولة، نظرًا للحذر المضاعف الذي يحيطون أنفسهم به والإجراءات والتدابير الأمنية الخاصة بهم.

وهنا تعد دائرة العلاقات الشخصية والاتصالات هي المدخل الرئيسي للجواسيس والعملاء للوصول إلى هؤلاء القادة، ما يمكنهم من زرع شرائح اتصالات ترسل ذبذبات عبر الـ(جي. بي. أس) التي تحدد بدورها للدرون مكان الهدف بدقة عالية.

صداع الاختراق
بدلًا من معالجة الخروقات التي تعرض لها بعض القادة، وبدلًا من السير على التقليد المعمول به في التنظيم منذ وصايا أسامة بن لادن المكتوبة التي عثر عليها في مخبئه بعد مقتله، وضرورة التخلص من الجواسيس، ظهر باطرفي القائد الجديد لفرع القاعدة باليمن بسلوك مختلف مع ظاهرة الجاسوسية، وهو ما يجري تحميله بتأويلات متناقضة.

يلجأ أنصار باطرفي إلى الزعم بأن إعدام الجواسيس في السابق لم يحلّ المشكلة ولم ينقذ تنظيم داعش عندما قام أبوبكر البغدادي بقتل العشرات منهم، بل عكس حالة من الإرباك والضعف، ولابد من طرح خطط بديلة لإنقاذ القاعدة من مصير داعش. يحول دون الاقتناع بهذا التصور الاختراق الأمني الكبير لتنظيم القاعدة، وخاصة فرعه في اليمن، علاوة على والخلافات التي وصلت حد اتهام قائد التنظيم بالتجسس لحساب المخابرات الأميركية.

وصار قائد فرع القاعدة الجديد بجزيرة العرب بين طرفي كماشة. فإما أن يلتزم بقواعد التنظيم ومنهج أسلافه معرضا نفسه لمصيرهم الذي صار مقروءًا ومشاهدا قبل وقوعه، أو الإقدام على خطوات تزيد من الشكوك حوله وتعرضه للاستهداف من داخل تنظيمه، وفي مقدمتها مغامرته بالعفو عن الجواسيس.
ساعتها قد يحظى باطرفي فقط بأسلوب قتل مختلف، فلن يتطلب التخلص منه وجود جواسيس على الأرض يدلون الدرون الأميركية على موقع تواجده ووضع الشريحة التي تعتمد عليها لضربه.

* "كاتب مصري - العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى