محمد أبو ماضي.. أقدم سائق في فلسطين

> سلفيت - ماهر خويرة - العربي الجديد

> على الرغم من أنه لا يذكر التاريخ تماماً، إلا أن التسعيني محمد أبو ماضي من مدينة سلفيت، شمال الضفة الغربية، لا ينسى ذلك اليوم الذي جلس فيه خلف مقود الحافلة الصغيرة والقديمة، وداس لأول مرة في حياته على دواسة البنزين بمساعدة سائقها الذي شجعه على ذلك في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.

"كان ذلك في العام 1939 أو قبله أو بعده بعام. لا أذكر بالضبط. لكن فرحتي لم تكن توصف عندما تحركت الحافلة إلى الأمام أمتاراً عدة. كانت يداي ترتجفان وهما تمسكان بالمقود بمساعدة السائق الذي جلس إلى جانبي. لكنني كنت فرحاً"، يقول أبو ماضي لـ "العربي الجديد"، وهو المولود في العام 1925 حين كانت فلسطين خاضعة للانتداب البريطاني.

كان والد أبو ماضي يملك مناصفة مع شخص آخر حافلة تعمل على نقل الركاب على خط نابلس ـ القدس ـ الشام" (دمشق)، وكان يساعدهما في توزيع التذاكر. لكن حلمه كان الجلوس خلف المقود، لا أن يبقى واقفاً لساعات يوزع التذاكر ويجبي المال. يقول: "لاحظ شريك أبي شغفي بالقيادة. في إحدى المرات، دعاني لتجربتها، ورحت أخبر أصدقائي أنني قدت الحافلة، من دون أن يصدقوني".

أول رخصة
انتظر أبو ماضي حتى عام 1944، ليحصل فعلاً على رخصة القيادة الممهورة بتوقيع ضابط السير البريطاني، وكان مكتبه الرئيسي في مدينة نابلس، شمال الضفة. وبعدها، عمل فوراً على شاحنة في نقل المشمش والتفاح من سلفيت والمناطق المجاورة إلى سوق الخضر في مدينة يافا حتى عام 1947. ثم حصل على رخصة حافلة، ولم يكد يعمل عليها حتى جاء الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، وانتقلت إدارة الضفة الغربية إلى الأردن الذي عمل على تغيير الرخص كافة، فسلّم أبو ماضي رخصته البريطانية وحصل على أخرى أردنية.

يقول أبو ماضي: "عملت نحو ربع قرن على حافلة لنقل الحجاج إلى الديار الحجازية، وكانت الرحلات تستغرق أسابيع أحياناً. كنّا ننام في الحافلات ولم تكن الطرقات مضاءة أو معبدة مثل اليوم، حيث ترافقنا الصحاري والضباع في معظم أسفارنا".
كان الاحتلال الإسرائيلي يحتجز الحافلات عند عودتها من السعودية على الحدود لأيام عدة، بحجة الفحص والتفتيش. ويتذكر أبو ماضي: "ما إن نذهب لاستلامها مجدداً حتى تكون في حالة يرثى لها، إذ يعمل الجنود على تفكيك قطعها وإتلاف بعضها وتخريبها. هذا الأمر كان يتكرر سنوياً".

مكانة اجتماعية
خلال تلك السنوات الطويلة من قيادة أبو ماضي، ذاع صيته نظراً لعلاقته المتينة مع محيطه المجتمعي، فصدر قرار ملكي عام 1958 بتعيينه "مختاراً" لسلفيت، التي كانت ما زالت مدينة يافعة، والمختار منصب كان صاحبه يملك صلاحيات إدارية لتسهيل أمور الحياة العامة للمواطنين.

يقول أبو ماضي: "كان عدد السائقين قليلاً جداً، لأن عدد السيارات كان قليلاً أيضا، فكانت الناس جميعها تعرف السائق وتتواصل معه، وهذا ما ساهم في تعييني (مختارا) لسلفيت، وبقيت في المنصب حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، كما شغلت منصب عضو مجلس بلدي سلفيت منذ عام 1976 وبقيت فيه ثلاثة عقود تقريباً".

خلال تلك الفترات، عمل أبو ماضي سائقاً عمومياً على حافلة ثم على سيارة خاصة. ولاحقاً أدار مكتباً للسيارات في نابلس، قبل أن يعتزل العمل بعد تقدمه بالسن. لكن شغفه بالسيارات والقيادة لم يتغيّر. وكما فعل الأردن عندما أدار الضفة الغربية، فعل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، فاستبدل رخص القيادة بأخرى مكتوبة باللغة العبرية. وعندما تأسست السلطة الفلسطينية عام 1994، أصدرت رخصاً باسمها. فبدّل أبو ماضي رخصته وجددها.

سيارات اليوم
عن سيارات اليوم، يقول: "لا أقود سيارات الأوتوماتيك. ما إلها هيبة". يضحك قبل أن يتابع: "السيارات في البلد أكثر من الناس. للأسف، لا أحد يلتزم بالقوانين. لهذا السبب، نسمع عن الكثير من حوادث السير المميتة. قديماً، كان يقع حادث واحد شهرياً. اليوم، نشهد حوادث يومية. يا لطيف".
يتحدث أبو ماضي عن المركبات على أنواعها. يقول: "زمان (في السابق) كان بودي السيارة (هيكلها الخارجي) قوياً جداً ومصنوعاً من الحديد. أما سيارات اليوم فمن الكرتون. أبسط ضربة تجعلها غير صالحة للقيادة".

تزوج أبو ماضي ثلاث مرات، وأنجب سبعة أبناء، منهم ثلاثة رحلوا في حياته. لديه من الأحفاد أكثر من خمسة وستين، أكبرهم ناهز الأربعين.

التزام بالقوانين
يؤكد ياسر، نجل محمد أبو ماضي، أن والده يعشق القانون. يقول: "أبي رجل عصامي يعشق النظام والقانون. لا أذكر يوماً أنه تلقى مخالفة أو تسبب بحادث سير. يقود بانتباه شديد ويحفظ خريطة فلسطين عن ظهر قلب، وتفاصيل الطرقات في الأردن والشام وحتى في السعودية. لا يمكن أن يضل طريقه يوماً. عاش بين المركبات أكثر من سبعين عاماً، وما زال".

ويعرب محمد أبو ماضي عن أسفه لعدم احتفاظه ببطاقات رخص القيادة التي كانت قد صدرت بالإنكليزية والعربية والعبرية.
وبحسب ياسر، فإن والده يستخدم مركبته الخاصة وهي من نوع "هيونداي" 2005 للذهاب إلى المسجد فجراً، ثم احتساء القهوة في مقهى في سلفيت مساءً. ولا يمكن أن يقودها يوماً من دون أن تكون الرخصة والتأمين ساريي المفعول.

قدوة
هذا الالتزام بالقوانين يؤكده الناطق باسم جهاز الشرطة الفلسطينية، لؤي ارزيقات، ومعه ضباط المرور خلال زيارة أبو ماضي في منزله، وتكريمه كأقدم سائق في فلسطين. يقول لـ "العربي الجديد": "هذا نموذج مشرف. رجل في الخامسة والتسعين من عمره يقود سيارته ويضع حزام الأمان، ورخصة القيادة وتأمين السيارة لا يفارقانه".
يضيف: "تحدثنا مع أبو ماضي وكان الرجل بسيطاً ومتواضعاً. وطالَبنا بأن نواصل في الشرطة وبقية الجهات المختصة عملنا في حماية المواطنين وتطبيق القوانين وضبط فوضى المرور، والتشديد على المخالفين وتكريم الملتزمين، لأن ذلك هو السبيل الوحيد لحماية الأرواح، ونحن نثني على كلامه".

ورسالة أبو ماضي للأجيال الشابة هي الالتزام بالتعليمات خلال قيادة المركبات المختلفة، وألّا يستهينوا بوضع حزام الأمان، والأهم أن يبتعدوا عن قيادة السيارات غير القانونية، فهي "تابوت متحرك".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى