التتار

> هاشم الخضر السيد

> قطز وقرار الجهاد ضد التتار
قرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقًا.. وهو قرار لا ينفع أن يرجع عنه القائد أو الجيش أو الشعب، وقطز يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة، وتحت تأثير التذكير بالله، وبالواجب نحو الإسلام، لكن من الممكن لهذه القلوب أن تتردد وأن تخاف، ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمرًا يقطع به خط الرجعة تمامًا على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!

قتل رسل التتار
لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرُسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب، وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلانًا للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيرًا عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلبًا على التتار، فيُلقي في قلوبهم ولو شيئًا من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل الأربعة هو: قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل الجادّ للجهاد، فبعد قتل الرسل الأربعة، لن يقبل التتار باستسلام مصر، حتى لو قبل بذلك المسلمون.

حكم قتل الرسل
كان هذا هو اجتهاد قطز والأمراء، ومع ذلك فلنا وقفة مع هذا الحدث. وقفة مع قتل الرسل: لا أدري ما هو السند الشرعي لقطز في عملية القتل هذه؟! فالرسل في الإسلام لا تقتل.. لا رسل المسلمين، ولا رسل الكفار، ولا حتى رسل المرتدين عن الإسلام!. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟» قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ، لَوْ كُنْتُ قَاتِلاً رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا». يعلّق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على هذا الحديث، فيقول: فمضت السنّة أن الرسل لا تقتل. هذا الحديث رواه الإمام أحمد والحاكم، وأخرجه -أيضًا- أبو داود والنسائي مختصرًا، وفي رواية لأحمد وأبي داود عن نعيم بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف نفسه: «وَاللهِ لَوْلاَ أَنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا». يقول الإمام الشوكاني، في كتابه القيم «نيل الأوطار»: هذان الحديثان يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين من الكفار، وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الإمام أو سائر المسلمين. لهذا فالحكم الشرعي في الإسلام أن الرسل لا تقتل.

ولعل قطز اجتهد في أن التتار قد هتكوا كل الأعراف والقوانين والمواثيق، فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، وبأعداد لا تحصى، وقد قتلوا في بغداد وحدها مليون مسلم، هذا غير المدن التي سبقت والتي لحقت، ولعله اجتهد هذا الاجتهاد بعد أن أساء الرُسل الأدب معه، وأغلظوا له في القول، وتكبروا عليه.. لعل هذا كان اجتهاده. ولكل جواد كبوة.

قطز وإنهاء الأزمة الاقتصادية
بعد قتل رُسل هولاكو، وبعد قرار الجهاد الصعب.. بدأ قطز في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جدًّا لحظة المواجهة. لكن واجهت قطز مشكلة أخرى ضخمة لا تقل عن المشكلات التي قابلها قبل ذلك.. ولاحِظوا أن قطز قد تولّى عرش مصر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، وجاءته رسالة هولاكو قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائدًا إلى منغوليا بعد وفاة زعيم التتار منكوخان، وهولاكو غادر الشام بعد سقوط حلب بقليل، وقبل فتح دمشق، وحلب سقطت في صفر (658هـ=1260م)، ودمشق سقطت في ربيع الأول سنة 658 هجرية.. أي بعد تولّي قطز لرئاسة مصر بثلاثة أشهر فقط.

إذن كل الترتيبات والخطوات التي أخذها قطز أُخذت في ثلاثة أشهر فقط، والمشكلات التي قابلها تحتاج فعلاً إلى سنوات - بل إلى عقود كاملة - حتى يتم حلّها على الوجه الأمثل.. لكنّه استعان بالله، وبدأ بحمية ونشاط يتعامل مع المشكلة تلو الأخرى، والهدف في ذهنه واضح جدًّا: «لابدّ من القضاء على هذه القوَّة الهمجية.. قوَّة التتار، وتحرير بلاد المسلمين».

المشكلة الاقتصادية
المشكلة الجديدة التي أمام قطز الآن هي: «المشكلة الاقتصادية!». لا بدّ من تجهيز الجيش المسلم، وإعداد التموين اللازم له، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار.. هذه أمور ضخمة جدًّا.. والأزمة الاقتصادية التي تمر بالبلاد أزمة طاحنة، وليس هناك وقت لخطة خمسية أو عشرية.. والتتار على الأبواب.. لقد كان التتار في غزة!!! ماذا يفعل قطز ؟!

من جديد جمع قطز مجلسه الاستشاري، ودعا إليه -إلى جانب الأمراء والقادة- والعلماء والفقهاء، وعلى رأسهم سلطان العلماء الشيخ العزّ بن عبد السلام. وبدءوا يفكرون في حلٍّ للأزمة الاقتصادية الطاحنة، وكيف يوفرون الدعم الكافي لتجهيز الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار.

فرض الضرائب
اقترح قطز أن تفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية؛ لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة جدًّا، ومؤقتة جدًّا، ولابدّ من وجود سند شرعي يبيح ذلك.. وإلا صارت الضرائب مكوسًا، وفارض الضرائب بغير حق عقابه أليم عند الله عز وجل. فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ».

ولما زنت المرأة الغامدية -وكانت متزوجة- فرُجمت بالحجارة بعد أن اعترفت بالزنا؛ لتطهر نفسها من الذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظّم من شأن توبتها: «.. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ». وفي هذا تقبيح شديد لعملية فرض الضرائب إن فرضت في غير حق، وصرفت في غير حق. يقول الإمام النووي تعليقًا على هذا الحديث: «إن المكس من أقبح المعاصي، ومن الذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها».

فقطز يقترح الأمر، وينتظر رأي العلماء في هذه القضية. ومع أن الغاية نبيلة، والمال المطلوب سوف يجهّز به جيش للقتال في سبيل الله، فإن الشيخ العزّ بن عبد السلام كان عنده تحفظ كبير على هذا القرار، فلم يوافق عليه إلا بشرطين.. والشرطان عسيران جدًّا بل وفي غاية من العسر!!!

فتوى في منتهى الجرأة!
قال الشيخ العزّ بن عبد السلام: «إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم (أي العالم الإسلامي)، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم (أي فوق الزكاة) بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء» هذا هو الشرط الأول، أما الشرط الثاني فكان أصعب! قال الشيخ: «وأن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون)، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة، فلا!!!».

هكذا أعلنها العز بن عبد السلام: إنه لا يجوز فرض ضرائب إلا بعد أن يتساوى الوزراء والأمراء مع العامة في الممتلكات، ويجهز الجيش بأموال الأمراء والوزراء، فإن لم تكفِ هذه الأموال جاز هنا فرض الضرائب على الشعب بالقدر الذي يكفي لتجهيز الجيش، وليس أكثر من ذلك.

كنوز مصرية
إن كانت هذه الفتوى عجيبة في جرأتها، فإن استجابة قطز كانت أعجب!!! لقد قبل قطز كلام الشيخ العز بن عبد السلام بيسر!!! وبدأ بنفسه، فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك! فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية.. واكتشف المسلمون في مصر اكتشافًا عجيبًا.. لقد اكتشفوا أن مصر غنية جدًّا، وأن البلد به أموال ضخمة على الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة.. وأصبحت ثروات بعضهم تساوي ميزانيات بعض الدول.. لقد كانت ثروات بعضهم تكفي لسداد الديون المتراكمة على البلد.. وكانت ثروات بعضهم تكفي لسد حاجة الفقراء والمساكين.. وتكفي لإصلاح الوضع الاقتصادي.

وللأسف الشديد فإن كثيرًا من هذه الأموال قد دخلت جيوب الأمراء والوزراء بطرق غير مشروعة، وبغير وجه حق؛ فهذا يختلس، وهذا يرتشي، وهذا يظلم، وهذا يأخذ نسبة، وهذا ينفق في سفه، وهذا يعطي من لا يستحق... وهكذا بُدّدت أموال الدولة العظيمة «مصر»!!! وأصبحت مصر دولة فقيرة نامية بينما إمكانياتها تسمح لها بأن تكون من دول الصدارة! ثم جاء قطز وبدأ في عملية تنظيف منظمة للبلد! تنظيف لليد والقلب.

أخيرًا اصطلح القائد مع شعبه بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب.. فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب.. غايته نبيلة.. وأمواله حلال.. ودعاء الناس له مستفيض.. وإعداده جيد... كيف لا يُنصر جيش مثل هذا؟! إن معادلة النصر في الإسلام ليست صعبة. المعادلة تقول: "إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7]. ونصر الله عز وجل لا يكون إلا بتطبيق شرعه، والجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله عز وجل.. فالبداية بيد المسلمين.. انصر الله عز وجل ينصرك الله عز وجل. وهكذا.. جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعدادًا عظيمًا، وما بقي إلا أن تشتعل المعركة، وهذا ما نفصل القول فيه في المقالات القادمة بإذن الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى