هشام باشراحيل كما عرفته.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

> قال زملاء كثر ما قالوه في ذكرى وفاة هشام الثامنة، وقد قلت فيه بعد سنة أو اثنتين من وفاته: "وعن هشام يطول الكلام"، والسر في ذلك ليس اكتشافا من (عندياتي) وإنما السر في هشام نفسه الذي تنامى كثيرا وكبيرا في سيرورة الناس اليومية وفي ذاكرتهم الجمعية، بعد أن خلق الوهج الصعب من تولدات العقل والقلب؛ الفكر والوجدان فيه لصالح وطنه. فقد كان حلمه أن يرى يوما مشهودا يتحرر فيه الجنوب إن بالحسنى أو بتكسر (النصال على النصال) كما قال المتنبي، لتنجلي صورة الوطن الآمن المسالم الحر على أرضه، المالك لثرواته والسيد في اتخاذ قراره بنفسه ولنفسه نحو المستقبل، وبقطيعة تامة وطلاق بالثلاث الصراح مع أي ديكتاتورية قادمة أو ناشئة تطل بقرونها من وراء الكثب.

أو مناطقية مشينة أو عسكرتاريا تعطل الحياة المدنية وتعتلي عليها وتكمم الأفواه وتحتجز العقول، وبالنتيجة؛ انبلاج أفق تصالحي مع النفس ومع الآخر يعيد الاعتبار للإنسان المكسور والمقهور على مدى عقود في الجنوب، وإطلاق العنان لكل ما هو جميل على هذه الأرض الطيبة وأيقونتها عدن الساحرة.

كانت أسلحة هشام الحروف والمداد والورق، وكانت عدن منطلقا، وأساسيات الحرف المقاوم عند هشام وجريدته الجنوب بكلياته، دون أن ينسى الشمال المكسور والمقهور منذ عهود، في تفريق واع بين الإنسان المواطن والسلطة هناك بما هي آلة للتسيد والتسلط والقهر بتجمع القبيلة والعسكر، أوجعت الشمال ردحا من الزمن، ثم استباحت الجنوب مضيفة إليه كليات القمع والنهب التي ما خطرت ببال الاشتراكيين التجريبيين حين ساروا إلى الوحدة واثقي الخطوة يمشون وبنفوس لا تدري ما تحت الرمال.

إذا السر في كاريزما هشام وأخيه تمام في أن يجعلا من صحيفة أهلية عدنية تتكئ على حر مالهما؛ مساحة للحرية بحجم الوطن، وبتشكيل الوعي المقاوم في الجنوب في تحد لجبروت متغطرس أعمته لحظة النصر الخادع والمؤقت في 7/ 7/ 1994م.

ولذلك شهدنا بأم أعيننا كيف تكون الكلمة والصورة والكاريكاتور زلزالا مدمرا لعرش متسلط، دون أن تفعل هذه الوريقات الملونة التي تولد مع كل فجر جديد احترازا واحتياطا لنفسها لردة فعل آثمة من سلطة باغية كأن تحرر من خارج الحدود مثلا أو تأتي من أعالي البحار، بل ظلت تصدر من داخل (الحوش) ذاته من المنزل ذاته الذي صدرت فيه لأول مرة في العام 1958م على يد الوالد المؤسس الأستاذ محمد علي باشراحيل، رحمه الله تعالى رحمة الأبرار.

وهنا؛ يكمن السر الآخر المتمثل في الشفرة الجينية لآل باشراحيل حيث لا تكون الصحيفة بهرجة لمظهر معزولة عن نبض الشارع ومعاناة الناس مليئة بالفرح الكاذب الذي يطوع الحرف ليكون خادما في مراسم حمل المجامر ومسح الجوخ في حضرة الحاكم الجائر. ولو كان الأمر كذلك لما تعرض البيت الآمن بنسائه وأطفاله وشبابه وشيوخه للترويع والقصف، نعم القصف، والحصار والاقتحام.

كانت «الأيام» وصاحبها بعد التأسيس وفي عشرية الثورة في الستينيات الماضية منحازة للشعب والثورة وتعرضت ما تعرضت له من إغلاق و مساءلة بموجب قانون الصحافة الجائر في عدن.
لكن ذلك وإن كان شرا فهو أهون الشرين، كما يقال، بالمقارنة مع ما تعرضت له الصحيفة وأهلها وعلى رأسهم المناضل الكبير هشام باشراحيل من قصف وحصار واعتقال مصداقا لقول أبي الطيب المتنبي:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

من وقع الحسام المهند

كان هشام مضحيا بكل شيء مستعدا لأسوأ الاحتمالات في سبيل الجنوب، جاعلا من صحيفة «الأيام» كتيبة متقدمة للتصدي للعدوان بعد انهيار الجيش واحتلال الجنوب في 7/ 7/ 1994م.

ومن المفارقات أن طرائق محاربة «الأيام» وأصحابها من قبل سلطة صنعاء تفريخ الصحف الصفراء والتفوق التقني الذي جلب أحسن الآلات الطباعة تقدما لصد ومحاربة الصحيفة العدنية «الأيام» ولكن هيهات. في إحدى المرات كان رجل التوجيه المعنوي يستعرض أمامنا آلات الطباعة الأحدث التي يمتلكها التوجيه، فباشره هشام بالقول: لو امتلكت «الأيام» هذه الآلات لصنعت ثورة إعلامية في البلاد.

والحق أن «الأيام» على عهد هشام وتمام قد صنعت ثورة في الجنوب بالآلات طباعتها المتواضعة بالقياس إلى ماكنات رجل الرئيس في التوجيه المعنوي، فأقصى ما كانت تغطيه أسبوعية الجيش صفحات مكلفة عريضة وطويلة يستفيد منها أصحاب المطاعم والباعة الآخرون للافتراش عليها ولف الطعام بها، بينما وصل توزيع «الأيام» يوميا أكثر من سبعين ألف نسخة رغم المنع والتقطعات وغيرها من ممارسات البلطجة.

ورغم ما مرت به الصحيفة وعلى رأسها طيب الذكر الشهيد البطل هشام وأخيه تمام محمد علي باشراحيل طوال سنوات الجمر الممتدة من 1994م وحتى 2015م إلا أن «الأيام» تقوم بعد كل مأساة وتعاود الصدور كما تخرج العنقاء الأسطورية من بين الرماد.
إن جزءا من تراجيديا سقوط معبد كهنة الحكم في صنعاء كان قد شهده هشام باشراحيل قبل رحيله إلى الباري جلت قدرته في مثل هذا الشهر قبل ثمان من السنوات.

رحل هادئا مطمئن البال الباشراحيل الكبير هشام مسلّما الراية لأخيه وللجيل الثالث من الأبناء، لتستمر شعلة «الأيام» متقدة.

رحم الله غالينا أبا باشا وأسكنه فسيح جناته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى