​أمير الكلمات.. محمد سعيد جرادة

> فهمي غانم

> لم يكن الأستاذ محمد سعيد جرادة اسماً على قارعةِ الطريق، بل كان علَماً فنياً ومشروعاً ثقافياً إبداعياً قابلاً للتنفيذ استوعبت تجربته الضرورةَ الشعرية ومتلازماتِ الذائقةَ الإبداعية عبر العصور وأحالها إلى حالةٍ ديمومةٍ من الألق وزادها من نفَسِه الطويلِ الأدبي والشعري والفني ومن ملامحِ شخصيته العبقريةِ وثقافته الموسوعة.
كان محمد سعيد جرادة امتداداً واعياً لمنهجيةٍ أصوليةٍ ومدرسةٍ عريقةٍ في الشعر تضربُ جذورها في تاريخنا الأدبي والشعري منذُ ما قبل الإسلام، ومروراً بعصورِ الشعرِ الذهبية حتى العصر الحديث الذي عاش فيه الشاعرُ، لذا يعتبر الشاعر والأديب محمد سعيد جرادة واحداً من أعمدةِ هذه المدرسة التاريخية التي أسس بنيانها في بلاده اليمن ومدينته عدن التي اعتمدت في جلِّها العمود الشعري وقافيته شكلاً وإطاراً يحفظُ هيبةَ القصيدة وفعّاليتها الإبداعية والإنسانية.

ضمَّ جرادة إليه ثوابتَ الكلِم وحروفَ اللغة ودواليبَ الأدب وتاريخَ المعرفة فهضمها وعصرها فسكبها أعمالاً فنية تُشئ إلى نابغةِ العصرِ اليمني وفتى عدن الملهم بالشعر فيذكّرك بزمنِ القصائد الموشّحةِ على أستارِ الكعبة وفي عصورِ الشعرِ التاليةِ الأخرى، بل في المدى التاريخي كله.
يا رفيقي متّع العينَ بأضواءِ الشروقِ
هذه الشمسُ أطلّتْ مثلَ فيضٍ عقيقِ
وجرى الجدولُ تحتَ الدّوحِ كاللحنِ الرشيقِ
وتغنّى صادحُ الطيرِ على المرجِ الوريقِ
الشاعر محمد سعيد جرادة عاش أحلى فترة ارتفاع المنسوبِ الأدبي وزيادةِ الطفرةِ الثقافية في مدينته الجميلةِ عدن مدينةُ النسيجِ الإنساني وقبلةُ العالمين التي شكلت البيئةَ الحاضنةَ الرافعةَ له ولكلِّ الأدباء والمثقفين، حيث كان يموجُ فيها كلُّ أنواعِ التمدّدِ الثقافي والانسيابِ الفكري الذي سرى في تفاصيل وأوردةِ بنيةِ المجتمع المدني العدني الذي كان أحد حوافز الحراك الثقافي والأدبي والفني، فكانت عدن بذلك طاقةً إبداعيةً ملهمة قادت المشهدَ الثقافي والفني كلّه في الإقليم، وكان تأثيرها حاضراً حتى يومنا هذا.

كان مسجد زكّو بالشيخ عثمان أهمُّ روافد العطاء الكبير لشاعرنا جرادة وتأثره بشيخه العلّامة أحمد محمد العبّادي الذي تعلّم منه المصادرَ الروحية الأولى التي ألبسته الحالة الصوفية والأثر الروحي التي نجد ملامحه في العديدِ من قصائده كما نهل منه أسرارَ اللغةِ العربية وتكنيكِ علم الكلام والنحو والبلاغة.
عبقتْ بعطرِ مديحِكَ الأشعارُ
وشدتْ برمزِ فخارِكَ الإعصار
وتنسّمَ التاريخُ ذكركَ نسمةً
يسبب الوجودَ أرياحها المعطارُ
ذكراكَ في سِفر الخليقةِ صفحةٌ
للمجدِ طابعها عُلاً وفخارُ
جرادة لم يكن خارج السياق الوطني، إذ غمرت روحَه حالةٌ من الغضبِ والتفاعل الحي مع ما يدور في وطنه من إرهاصاتٍ ومقدمات تصبُّ كلّها في مواجهةِ الوضعِ القائم آنذاك.

لقد استوعبَ الضرورةَ الحتمية ومرحلةَ استعادتْ الوعي باللحظة الراهنة مرحلة إعادةِ رسمِ المشهدِ الوطني على غير رغبةِ المستعمر لذا استقام هذا التفاعلُ في وجدانه على مجموعةٍ من القصائد والكتاباتِ التي لا تفصل الأديب والشاعر والمثقف والوطني الغيور جرادة عن مجتمعه، بل تشدّه الحالةُ الوطنية إليه وتعمل مفاعيلها على تجويدِ القولِ وتحويلِ الكلمة إلى طاقةٍ نضالية ومتراسٍ من متاريس الفعل الإيجابي المتصل بتراثِ الشعب النضالية وقواه التحررية.
اليومَ تشرقُ فيكَ الشمسُ يا وطني
شمسانُ حدّثْ عن الماضي فأنتَ له
راوٍ له صدقٌ وإسنادٌ وتقريرُ
بالأمس كان المستعمرون لهم
نظامُ حكمٍ صفيقُ الوجه شرّيرُ
حوّل شمسان من رمزٍ مكاني إلى شاهدٍ حيٍّ يستنطقه عن أفاعيل المستعمرِ، وهذه صورة ذهنية متّقدة.

كان يرى أن التجديدَ ليس عملية انسياقية عبثية تتمُّ في جزرٍ منفصلة عن الواقع، وإنما هي خبرةٌ حياتية إبداعية للشاعر لتوظيفِ ذلك في تجديدِ الصورِ الذهنية والأساليب النصية للوصولِ بالمتلّقي إلى حالةٍ من الإشباعِ والمتعةِ وفقاً لضروراتِ الحالةِ الشعورية للشاعر ومنعته الاحترافية من السقوطِ في متاهات سقطِ الكلام أو مقارعة طواحين الهواء فالشعرُ هنا بقدرِ ما هو احترافي ومهني فهو حالةٌ إبداعية وجودية يلتحم الشاعر (الذات) بالموضوع حتى يصبحان كتلةً غير قابلةٍ للتجزؤ أو الافتراق.

كان الأديبُ والشاعر والمثقف جرادة صاحبَ موقفٍ في الحياة، وربما جرَّ عليه ذلك بعض الخصومات الأدبية مع الآخرين، وقد وجدناها على صفحاتِ الجرائد العدنية كـ "فتاةِ الجزيرة" و "الأيام" و "اليقظة" و "القلم العدني" في فترة الخمسينات والستينات وامتدتْ إلى أوائل السبعينات كانت تدورُ في مواضيع شتّى أدبية وشعرية وسياسية واجتماعية، لكن اللغةَ السائدة فيها تنبئ أنّ تلكَ المساجلات الأدبية كانت على قدرٍ كبير من اللغة الرشيقة التي لا تحطُّ من قدر أحد ولا تفسدْ للودِّ قضية لهذا اتصفتْ مواضيعهم بما يمكن أن نسميه بعلامةِ الجودة التي تضبط تخومَ الكلام وحدوده على أرضِ شرعية الإبداع، ولا تعطِ مجالاً للمناورة بالضرب تحت الحزام.

لقد كان أميرُ الكلمات الأستاذ الشاعرُ والأديب والمثقف الراحل محمد سعيد جرادة، نبعاً من منابع الشعرِ الغنائي رسمَ بإحساسٍ عالٍ وذوقٍ رفيعٍ دواخلَ النفس واستلهاماتها وأنتجَ في ذلك أهراماً سامقةَ البنيان ارتفع فيها سقفه إلى مصافِ الروّاد وغذا صوته الشعري ترنيمة من ترانيم الوله والعشقِ والحبِّ العذري ولعبتْ الخبرةُ التراكميةُ النوعية دورها في إحداثِ صليلٍ خاص لقصائده ومجملِ كتاباته.

كما كان يرى أنّ القافيةَ في شعره ليستْ سجناً يضيقُ بها صدره إنما هي حالةٌ انشراحية، بل هي حركةٌ تقنية مهمة لخدمةِ النصِّ وتحريكِ لوازمه الموضوعيةِ والفنيةِ واستحضارِ كاملِ الصورةِ الذهنية من أن ينالها أيَّ تشويه.
علاقته بالنصِّ الشعري ليستْ علاقة سردية، إنّما هي إعادة تخليقٍ للحروفِ والكلماتِ والأبيات بما يمنحُ البيتَ الواحد بشطريه رونقه الخاص به، بمعنى آخر فإنَّ الجرادة لا يجهض العبارات، بل يضعها تخرجُ بشكلٍ سلسٍ وبولادةٍ طبيعيةٍ غير مشوّهة.

البنيةُ الثقافية للقصيدة لدى جرادة تدّلُ على حجمِ معرفته بعوالم الشعرِ المختلفة والإرثِ الثقافي ومدى العلاقة البينية بين القصيدة كشكلٍ أدبي قائمٍ بذاته وغيرها من الفنونِ الأدبية الأخرى وتوّفر خيال خصب يحيلُ القصيدة إلى ما يشبه سيكولوجيةِ النفسِ التخيّلي، الذي ينقلك لنوعٍ من البانوراما السينمائية المتعددة المشاهد فتحدث لك نوعاً من الدهشة، وأنت تستمع لقصيدة (هي وقفة):
هي وقفةٌ لي لستُ أنسى ذكرها أنا والحبيب
في ليلةٍ رقصتْ من الأضواءِ في ثوبٍ قشيب
لمّا التقينا والجوانحُ لا تكِفُّ عن الوجيب
فهززته وهو الرقيق كنسمةِ الفجرِ الرطيب
وغمرته وهو الذي لنداءِ قلبي يستجيب
بعواطفي المتكبرة ومشاعري المتفجّرة
وشرودِ وجداني الكئيب
نلاحظ في هذه الأبيات أنّ الموسيقى الداخليةَ للنصِّ تصنعُ بهجتها عند المتلقي وتثيرُ فيه إيقاعاتٍ راقصةً تهتزُّ فيها المشاعرُ يمنةً ويُسرى في لحظةٍ تصنعُ الأنس في توافقٍ تامٍ مع صوت فنّان الشعب الأستاذ محمد مرشد ناجي.

إنّ الكلمات واللحنَ والأداءَ هي رسائل مشفرة للعملاقين المرشدي وجرادة تظهرُ حالةً وجدانيةً تلتقطُ المشترك بينهما على أرضيةٍ متجانسةٍ وفهمٍ متسقٍ لإثراءِ الساحةِ الفنيةِ بكلٍّ ما هو جميل.
وفي ذروةِ التتابعاتِ الإلهاميةِ تتراقصُ الكلماتُ طرباً، ويغدو لقاء الشاعر بحبيبه عيداً يستحقُ إفراد أحاديث الصَبا ولذائد العمر واستحضار رواة الشعر ليحيوها كما أحياها الجرادة، في قصيدة "لقاء":
يا حبيبي أيُّ عيدٍ أيٌّ سعد
سوفَ تبقى هذه الليلةَ عندي
عندنا وردٌ حكى رقّةَ خذِّ
ومُدامُ أشبهتْ فرحةَ وعدِ
وفراشٌ ناعمُ المخمل وردي
وأحاديثُ صباباتٍ ووجدِ
سوف أحيا هذه الليلةِ وحدي
وسيحياها روّاد الشعرِ بعدي
يا حبيبي
إنّ المتواليات النغميةَ وتعدّدَ الصورِ الشعريةِ وتمدّد الجملةِ اللحنية عبرَ النصِّ يدلُّ على قدرةٍ إبداعيةٍ لعملٍ مشتركٍ شيّقٍ لاثنين من عشّاقِ الكلمةِ واللحن تمثلتْ في الجرادة والمرشدي.

وفي قصيدة (ربيعِ الجمال) وهو أوّل لقاءٍ فني بين الشاعر محمد سعيد جرادة والفنان سالم أحمد بامدهف.. ارتقت الحاسةُ الذوقيةُ الإبداعيةُ لدى الشاعرِ والفنّان إلى مصافِ التماثلِ الفني والإحساسِ الذوقي بشرفِ الكلماتِ واللحنِ والأداءِ الذي لا يصدر إلاّ عن شفافيةٍ نُحتتْ في جوفِ العمل واستبطنتْ ما فيه من الربيعِ والجمال:
نمْ على صدري فأنتَ الأمل
يا ضياءً عانقته المُقل
يا حبيباً لم يدعْ في مهجتي
موضعاً فيه حبيبٌ أوّل
كلّما فيكَ جميلٌ ساحرُ
والذي تجهلُ منه الأجملُ
مُقلةٌ نعساءُ فيها كمنتْ
فتنةٌ تسبى وسحرٌ يقتلُ
تبدو القافيةُ هنا توصيل مختزلٍ للربطِ الموضوعي والفني للنصِّ بخيوطٍ حريريةٍ مستخرجةٍ من النصِّ لا مفروضة عليه فتغدو القافيةُ كحصانٍ متحركٍ يقودُ القصيدةَ نحوَ غاياتها فلا تحسّ بأي تنابزٍ بين الكلمة وبين اللحن والأداء.

هذا هو الأستاذ الأديبُ المثقفُ الشاعرُ الوطني محمد سعيد جرادة علمٌ من أعلامِ بلادنا وواحدْ ممن عُلّقتْ أشعارهم على أستارِ مرحلةٍ تاريخيةٍ ذهبيةٍ لعدن كانوا فيها نبضها وروحها وألقها وأناقتها وصوتها ومدنيتها وتيجاناً على رؤوسِ الأشهاد.. فقد شهدتْ عدن في تلك الفترةِ جملةً من التفاعلاتِ الحيويةِ الإيجابيةِ في كيمياء الحياةِ المدنية التي أفضتْ إلى أن تتصدّر عدن المشهدَ وتكون على موعدٍ مع قدرها ودورها وعطائها المتجدد عبر التاريخِ كلِّه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى