روسيا.. حسابات النفوذ في البحر الأحمر والقرن الأفريقي

> "الأيام" أضواء*

> خلال فترة الحرب الباردة بلغ التنافس الدولي أشدّه على فرض الهيمنة والنفوذ في الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصةً بما يتعلّق بالقواعد العسكرية والموانئ البحرية، حينها حاولت روسيا السوفييتية الحفاظ على وجودٍ عسكريّ دائم لها في شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي، بهدف تأمين إمدادٍ دائم لعملياتها البحرية، ومن المعروف أنها كانت تتحكّم بقاعدة بربرة، الميناء الرئيسي لما يُعرف بأرض الصومال، لكنّها خسرتها عقب اندلاع الحرب الأهلية بين أثيوبيا وإريتريا، ومع توالي الأزمات الداخلية في تلك المنطقة وصولًا إلى انهيار دول الاتحاد في 1991م فقدت روسيا موطئ قدمها في تلك المنطقة بعد تنفيذ عمليات انسحاب للقوات، مما أدى إلى انحسارٍ كبيرٍ لها في الشرق الأوسط وأفريقيا.

ومع وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للسلطة عام 2000، أعاد ترتيب أولويات واعتبارات موسكو الخارجية، فكانت سورية أولى نقاط الارتكاز للعقيدة البحرية الروسية، ولعلّ النجاح بوضع ركيزة لها في المياه الدافئة فتحت شهية الكرملين لاستعادة طموحات روسيا التاريخيّة في المنطقة، وكانت أولى الاهتمامات وضع نقطة ارتكاز استراتيجي في القرن الأفريقي الذي شهد مؤخرًا تزاحمًا للقوى الخارجية انطلاقًا من جيبوتي التي تحوي قواعد عسكرية لفرنسا- وأمريكا، ووفقًا لبعض المصادر فإنَّ موسكو حاولت خلال الفترة بين 2012 - 2016 إقناع جيبوتي بإنشاء قاعدة عسكرية، لكن الأخيرة رفضت بعد معارضة الولايات المتحدة، كما أن جيبوتي امتنعت عن تلك الخطوة خشيةً من أن يؤول ازدحام القواعد لديها إلى حدوث اشتباك بحري دولي بين قوى متضاربة في الأجندة والمصالح.

بعد فشل الجهود مع جيبوتي لجأت موسكو إلى إريتريا معتمدةً على إرث العلاقات القديمة، وفي أغسطس 2018 أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف رسميًّا أنَّ روسيا وإريتريا تتفاوضان بشأن فتح قاعدة لوجستية على الساحل الإريتري.
ورغم كل ذلك شاب الغموض مصير الاتفاقية ولم يصدر أي تقدّم أو تصريح من الطرفين، وهو ما قاد إلى اعتقاد بأنَّ تحرّك موسكو نحو السودان كشف عن تعثر محاولاتها السابقة مع عدة بلدان منها اليمن، حيث كانت موسكو تضع عينها على جزيرة سقطرى لكن الإمارات وضعت يدها عليها منذ يونيو 2020.

وبموجبه وانطلاقًا من كل تلك الجهود استطاعت روسيا جني ثمارها من خلال بوابة السودان فالقاعدة اللوجستية في بورتسودان تعد مرحلة أولى أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله تحقيق الآتي:

- وجود منشأة عسكرية في بورتسودان ولو كانت في البداية على صعيد لوجستي فهي تُنذر بعودة روسيا إلى الخريطة الجيوسياسية في أفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول جنوب الصحراء، وقد تزداد جهود روسيا مستقبلًا ليس فقط في وسط أفريقيا بل مع دول الساحل الأفريقي، حيث أنشأت موسكو سابقًا وجودًا أمنيًا لها في ظل فشل الجهود الفرنسية في محاربة الإرهاب، وتعد جمهورية مالي آخر النماذج التي شهدت تناميًا للدور الروسي بعد وقوع حادثة انقلاب داخل السلطة.

- عطفًا على البند السابق توجد عدة دلائل تكشف عن إمكانية إطلاق يد روسيا في أفريقيا حيث تُعتبر موسكو مُورِّدًا رئيسيًا للأسلحة الأفريقية، وحسب تقديرات معهد ستوكهولم الدولي للأبحاث فإنَّ نسبة صادرات الأسلحة الروسية إلى أفريقيا بلغت 37.3 %، تليها الولايات المتحدة بـ16 % وفرنسا بـ 14 %، والصين بـ9 %، كما أنَّ موسكو ستستفيد في الجانب العسكري مع الدول التي وقّعت معها مؤخرًا صفقات عسكرية من بينها أنغولا ونيجيريا والسودان ومالي وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية، بما في ذلك الطائرات والمروحيات، الصواريخ المضادة للدبابات ومحركات للطائرات الحربية.

- يؤمّن الارتكاز البحري لموسكو في السودان إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر، ممّا يعني فرض نفسها كلاعب متحكّم في معادلات الطاقة الجديدة والتي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.
- بوابة السودان البحرية ستفتح المجال أمام الأسطول الروسي لتعزيز موقعه البحري في المحيط الهندي، ما يوفر مرفقًا آخر للمياه الدافئة إلى جانب قاعدة طرطوس حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد ومن دون شرط العبور من قاعدة طرطوس.

- سيُتيح قرب المركز اللوجستي من جيبوتي واليمن والطرق الرئيسية لأساطيل حلف الناتو إمكانية لموسكو من مراقبة أنشطتهم التجارية والاقتصادية والعسكرية، وهو الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على التوازنات الإقليمية في المنطقة.
- يمنح الوجود العسكري الروسي في السودان ورقة قوة قد تستخدمها في إطار النشاط التركي المتزايد والوجود الأمريكي والصيني، ويتضح ذلك من خلال توقيت الاتفاقية التي تزامنت مع سلسلة المفاوضات بين الخرطوم والولايات المتحدة.

- أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لروسيا من وراء بناء نفوذ لها في السودان محاولتها تأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي بهدف خدمة أهدافها في شرق أوروبا، إلى جانب التهرّب من حزمة العقوبات الغربية المفروضة عليها بسبب سياساتها في المنطقة كأزمة أوكرانيا على سبيل المثال.

ويعود سبب اهتمام روسيا بمياه البحر الأحمر إلى اعتبارين رئيسييّن، الأول يرتبط بأهمية المنطقة الجيوبوليتيكية وما تحمل من أبعاد جيوسياسية مهمة للمشروع الروسي التوسّعي، فموقعه الحيوي سهّل إمكانية وصول الدول الكبرى إلى المحيطين الهندي والأطلسي، فهو يقع بقلب قوس غير مستقر كما حدده البروفيسور برجنيكسي، وهو القوس الذي يضم الشرق الأوسط والقرن الأفريقي ومنطقة المحيط الهندي، كما يعد ضمن الإطار الجيوبولتيكي لمنطقة الخليج العربي، كذلك له أهمية خاصة بحركة التجارة الدولية بين أوروبا وآسيا حيث تُقدر السفن التجارية العابرة منه سنويًا بعشرين ألف سفينة.

أما الاعتبار الثاني يرتبط بمعادلات التنافس والسيطرة مع الدول الكبرى على المنطقة بهدف تأمين الموارد ولعب دورِ حيوي في التجارة الدولية، فأمريكا مثلاً تهتم بالمنطقة لما تشكّله من أهمية لها في ارتباط البحر الأحمر بمنطقة الخليج العربي والتي يتم من خلالها تأمين خطوط الملاحة التي يمر بها النفط عبر البحر الأحمر وقناة السويس، ولا تغيب الدول الأوروبية عن هذه المزاحمة كفرنسا، وبريطانيا التي تحتفظ ببعض قطعها البحرية في البحر الأحمر بموجب الإطار العام لحلف شمال الأطلسي، كذلك تزايدت الاهتمامات في المنطقة من قبل دول أخرى كاليابان، والصين الصاعدة، وإيران التي اهتمّت بشكل خاص بوجودها في ضفة البحر الجنوبية على مقربة من الوجود الإسرائيلي – الأمريكي، فبنت قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري، وأقامت شبكة علاقات مع بعض دول المنطقة كإريتريا والسودان واليمن تحديدًا مع جماعة أنصار الله الحوثي، وتعتقد إيران أن تعزيز مبدأ القوة في تلك المنطقة من الممكن أن يُجنّبها خطر استهداف مفاعلها النووي.

ومن خلال هذه المعادلة ظهرت من جديد روسيا كأحد القوى المنافسة على النفوذ السياسي والثروات، لا سيما أنَّ المنطقة لها اعتبارات وإرث خاص بها منذ حقبة الاتحاد السوفييتي.

* جزء من دراسة نشرها مركز أضواء للبحوث والدراسات

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى