عن موسكو الأمس واليوم

> في نهاية العقد الأخير من القرن العشرين كانت موسكو تغلي بمرجل التحولات الـ(جورباتشوفية) التي أراد منها الرفيق ميخائيل أن يتقرب من الغرب و(يتحور) من زعيم بروليتاري إلى زعيم ليبرالي، بقوة انفتاحه على الإمبريالية الدولية واضعا موتا فجائيا للإمبراطورية السوفييتية لن يتمكن هو أو أحد من تياره من السيطرة على تداعياته الخطيرة في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية.

ورجل الكرملين الكبير بخياراته تلك لم يعد مهتما ولا معنيا بالإبقاء على أعباء باهظة يتحملها بنيان الاقتصاد السوفييتي المترهل في دعم نصف الكرة الأرضية من بلدان العالم الثالث الحليفة للإمبراطورية السوفييتية من هاڤانا إلى عدن.
وأتذكر أن الأخ العزيز سالم صالح محمد وهو الرجل الثاني في الحزب الاشتراكي الحاكم في عدن، قد جاء موسكو مستطلعا وجاسا لنبضها في وقت تسارعت خطى الوحدة أو المطالبة بها بجدية.

عندما ذهبنا لملاقاته كالمعتاد في فندق اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الضخم والفخم لم نجده هناك؛ فأروقة الفندق وغرفه ما عادت تستقبل رفاق الأمس كما كانت تفعل وأصبح الضيوف من بلدان كانت بالأمس القريب: العدو الإمبريالي.
التقيناه في فندق آخر متواضع ومخفي في الشوارع الداخلية لموسكو، وما يهم أنه أطلعنا تلميحا وتصريحا أن السوفيات منهكون ومهتمون بشئونهم الداخلية المعقدة وعلينا إيجاد أنفسنا بالانفتاح على جوارنا الشقيق.

بعد بضع سنين كان انقلاب 18 و19 أغسطس 1991م في موسكو دراماتيكيا في دولة بوليسية ضخمة تحمل عبء تناصف الرعب النووي مع أمريكا. كان الاقتصاد السوفييتي عصا سليمان (عليه السلام) التي نخرتها الأرضة فسقط البنيان الضخم من جوانبه ودواخله. أنهكه سباق التسلح وحرب النجوم السياسة التي اتبعها الرئيس ريجان. ودون أن ننسى ثنائية القوة المكملة لريجان على ضفة الأطلسي الأخرى المرأة الحديدية مارجريت تاتشر.

لم تعتاد موسكو الاستيقاظ على دفء أشعة شمس شهر (آب) لتشاهد أرتال الدبابات تتوزع في مفاصل المدينة الجميلة. وتحت دافع الفضول الذي توفره دراسة الصحافة الدولية ذهبت لتقصي ما يحدث رأي العين، فكان مدهشا أن حركة المواطنين لم تقيد، ما دفعني للذهاب إلى آخر حاجز بالقرب من قصر (الكرملين) ثم عدت أدراجي إلى مبنى سفارة بلادنا غير البعيدة من محطة (حديقة الثقافة). كان الوجوم باديا على وجوه الناس في الشوارع وداخل أنفاق (المترو) بينما الدبابات في كل مكان تربض في وجوم مماثل أيضا.

في طريق عودتي كانت منشورات ممهورة بتوقيع بوريس يلتسن حاكم موسكو المتمرد على رفاقه في الحزب الشيوعي، توزع علنا داعية (الموسكوفيين) للتصدي للانقلاب، في ما بدا أنه صراع إرادات وكسر عظام، أما لصالح (جينادي) ورفاقه لإعادة ترتيب البيت الداخلي بعد ممهدات عبثية للالتحاق بالغرب للزعيم (جورباتشوف) المحاصر الآن في منتجعه في شبه جزيرة القرم، أو للطامح والمغامر (يلتسن) الساعي إلى سحب البساط من تحت أقدام رفاقه السابقين.

عندما ظهر الزعيم الجديد (جينادي) في شاشات التلفزيون محاطا بأركان الانقلاب وعلى رأسهم وزير الداخلية القوي، لم يستطع إخفاء ارتعاشة يده وهو يبرر الانقلاب بأنه ليس انقلابا.

ثم كانت لحظة المبادأة التاريخية تأتي من المتمرد على الحزب الشيوعي صاحب الجماهيرية الأوسع في موسكو الرفيق السابق بوريس يلتسن. يتخطى الحواجز ويفلت من كمائن الـ (كي جي بي) ويلتحم بالجماهير المحتشدة فيما يشبه دروع بشرية حول مبنى (البيت الأبيض) الروسي، ثم تذعن الدبابات ويصعد على متونها أطفال يتناولون الآيس كريم وتعلن الولاء لبوريس، وتلحقها فروع القوات المسلحة الجبارة ويدخل سيد (الكرملين) الجديد قصر الحكم في لحظة نزول علم الاتحاد السوفييتي وارتفاع علم روسيا الاتحادية، ولن يكون زعيم الحزب العائد من حصاره في القرم جورباتشوف أكثر من ضيف غير مرحب به في (الكرملين) قبل أن يرمى خارج السور الأحمر.

إن زيارة وفد المجلس الانتقالي الجنوبي إلى موسكو ليس بالضرورة أن تكون تمهيدا لـ(عودة الرفاق إلى مياه خليج عدن الدافئة)، أو أن نمني النفس باعتراف روسي خارج نطاق الاتفاق الدولي حول اليمن لمصلحة عودة دولة الجنوب. ولكن الزيارة بحد ذاتها اعتراف روسي بالدور الذي يلعبه المجلس بذكريات العلاقات التاريخية السابقة مع الجنوب، في نطاق ما يطالبه به شعب الجنوب، عن طريق اختطاط وانتهاج سياسات واقعية لا تدخل في مأزق تحدي الإجماع الدولي وإنما بالاستفادة من المتاحات الحالية حتى تحين اللحظة التاريخية المنشودة.

وقبل ذلك وأثناء ذلك ينبغي تهيئة العوامل الوطنية الداخلية بإرادة الشعب وحده، لا التعلق بوهم أن الخارج هو من يصنع طموحاتنا الوطنية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى