موسكو والعلاقات الاستراتيجية في جنوب اليمن

> منير بن وبر

> وصل رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، عيدروس الزبيدي، إلى العاصمة الروسية موسكو، في زيارة هي الثانية له بدعوى من الحكومة الروسية. وتأتي زيارة المجلس الانتقالي الجنوبي لروسيا في إطار سعيه الدؤوب لتوسيع شبكة علاقاته الدولية؛ للمساهمة في تحقيق أهداف المجلس الأساسية، والمتمثلة في استعادة دولة جنوب اليمن كاملة السيادة. كما تعطي العلاقة التاريخية بين الاتحاد السوفييتي سابقاً، روسيا حالياً، وجنوب اليمن، سمة خاصة لأي تواصل حديث بين موسكو وعدن.

كان الاتحاد السوفييتي من أوائل دول العالم التي اعترفت باستقلال جنوب اليمن في عام 1967؛ إذ تم الاعتراف بالكيان الجديد بعد يومين فقط من الاستقلال. وعلى عكس كل دول العالم تقريباً، لم يقم الاتحاد السوفييتي باستئجار مبنى لسفارته في عدن؛ بل سُمح له ببناء مجمع مبان ضخم يحتوي أيضاً على مساحات سكنية وعدة مرافق.

سرعان ما تم تبادل البعثات العسكرية، وتوقيع الاتفاقات بين البلدين، خلال الأشهر الأولى من استقلال جنوب اليمن، كما تم تبادل العديد من البعثات خلال السنوات اللاحقة لمناقشة المسائل الاقتصادية والثقافية والتعاون فيهما. قدمت موسكو عدداً كبيراً من الفرص الدراسية للطلاب الجنوبيين، كما قدمت عدن العديد من فرص الاستكشافات الاقتصادية والثقافية والتاريخية للعلماء والمهتمين الروس.

كان جنوب اليمن أيضاً الأمة العربية الوحيدة التي تبنت النظام الاشتراكي، وهو النظام الذي كان يتبناه الاتحاد السوفييتي؛ إذ كان الاتحاد السوفييتي وحلفاؤه الناقدون للسياسات الغربية، وفي مقدمتها السياسات البريطانية، داعماً قوياً للقوميين العرب من أجل النضال والاستقلال.

توحد جنوب اليمن مع شماله في عام 1990، كما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وقد كان لذلك تأثير على العلاقة بين البلدين الجديدين؛ إذ تحول الاتحاد السوفييتي الشيوعي إلى روسيا اتحادية ديمقراطية، ولم يعد نشر الاشتراكية عالمياً وتدمير الرأسمالية هدفاً في السياسة الخارجية. اليمن الجديد هو أيضاً متبن للديمقراطية وميال إلى الدول الغربية.

لم تكن العلاقات بين موسكو وصنعاء بنفس القدر من القوة مقارنة بالعلاقة القديمة بين موسكو وعدن؛ خصوصاً طوال فترة التسعينيات من القرن الماضي، إذ أدى تقلص الاقتصاد الروسي بعد تفكك الاتحاد إلى ضعف الدولة التي باتت تكافح من أجل توفير السلع العامة الأساسية والرعاية الاجتماعية والتعليم. وبطبيعة الحال، أدت تلك التحولات داخل روسيا إلى تراجع دورها العالمي، وأصبح التركيز الروسي منصباً على إنعاش الاقتصاد؛ لاستعادة دور عالمي مهم.

بدأ الاقتصاد الروسي في التعافي والنمو منذ عام 2000 تقريباً، وسرعان ما أدى ذلك إلى انخراط قوي في الساحة الدولية؛ وأصبحت تمارس تأثيراً كبيراً من أجل تشكيل نظام عالمي جديد. من وجهة نظر السياسة الخارجية الروسية، فإن هناك اتجاهاً متزايداً لإنشاء هيكل أحادي القطب للعالم من خلال سيطرة الاقتصاد والولايات المتحدة على حل المسائل الأساسية للأمن الدولي؛ وهي استراتيجية تراها موسكو مزعزعة لاستقرار الوضع الدولي، وإثارة التوترات والصراعات القومية والدينية.

ومنذ بدء الأزمة في اليمن، كان تدخل روسيا المُلتزم بالحياد بشكل كبير تطبيقاً عملياً لسياساتها الخارجية المبنية على تحقيق نظام عالمي متعدد الأقطاب ومتوازن للعلاقات الدولية. تحافظ روسيا على علاقات جيدة بجميع الأطراف المحلية في اليمن، وكذلك الأطراف الخارجية كالسعودية والإمارات.

وعلى الرغم من أن السياسة الروسية تجاه الأزمة اليمنية اتسمت بالحياد الاستراتيجي، وأداء أدوار الوساطة بين جميع الأطراف؛ فإن العلاقة بين موسكو والمجلس الانتقالي تحظى باهتمام كبير من قِبل المراقبين والجنوبيين على حد سواء، وذلك بسبب ما يحظى به الجنوب من أهمية جيوسياسية، وتصريحات المسؤولين الروس التي تؤكد بوضوح وعلانية ضرورة تسوية "القضية الجنوبية" لإنهاء الصراع في البلاد.

وفي سياق الموقف الروسي الفريد تجاه القضية الجنوبية، قال السفير الروسي في اليمن، فلاديمير ديدوشكين، في عام 2018، إن جنوب اليمن منطقة رئيسية في البلاد، ويجب أن تشارك في تسوية السلام. لم يكد يمر عام على تصريح ديدوشكين حتى وقَّع المجلس الانتقالي اتفاق الرياض مع الحكومة الشرعية، كأحد أهم اتفاقات المصالحة والمشاركة في النشاط السياسي.

وعلى الرغم من أن اتفاق الرياض يمر بالكثير من العثرات؛ فإنه يعد خطوة مهمة للمجلس الانتقالي. مؤخراً، ومع وجود وفد المجلس الانتقالي الجنوبي في موسكو، أكد السفير الروسي في اليمن أن روسيا يهمها تنفيذ اتفاق الرياض، وأن ممثلي المجلس الانتقالي الجنوبي يجب أن يشاركوا في المفاوضات بين الأطراف اليمنية تحت رعاية الأمم المتحدة.

وبشكل عام، فإن علاقة روسيا بالمجلس الانتقالي، والفاعلين الجنوبيين، والقضية الجنوبية، ستكون خاضعة لعدة اعتبارات؛ منها مدى قدرة الجنوبيين على كسب السلطة والقوة والاحتفاظ بهما، ومدى قدرتهم على مواءمة سياساتهم الخارجية مع السياسات الخارجية الروسية، وما يمكن تقديمه وكسبه من منافع بين الطرفين، بالذات في الجوانب العسكرية؛ ومنها القاعدة العسكرية الروسية التي تحدث عنها مسؤولون روسيون أكثر من مرة، وكذلك الجوانب الاقتصادية؛ خصوصاً مع قرب اليمن من أحد الخطوط الرئيسة لمشروع الحزام والطريق الصيني، وإطلاله على خط التجارة العالمي من وإلى أسواق النفط في الخليج العربي.

ومع أهمية كل تلك الاعتبارات في العلاقة بين روسيا والمجلس الانتقالي، ودورها في تعويل المجلس على علاقته بموسكو، إلا أنه لا ينبغي نسيان المبادئ الأساسية الأخرى ذات الشأن في السياسة الخارجية الروسية؛ ومن أهمها العلاقة مع إيران، والتي ترى موسكو أهمية كبيرة في استمرارها وتطويرها، وفي نفس الوقت، تتعهد بالعمل على استقرار الوضع في الشرق الأوسط، ومن هذه الزاوية يمكن رؤية تعقيد ما تطلبه السياسية الروسية من موارد ودبلوماسية لأداء كل هذه الأدوار متعددة الأبعاد وصعبة الموازنة؛ لكنها تجعل منها شريكاً ووسيطاً مهماً لحل النزاعات.

"كيوبوست"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى