هل توقف المبادرة السعودية الحرب؟

> لم يكن رد جماعة الحوثيين الفوري إيجابيًا على المبادرة التي تقدمت بها المملكة العربية السعودية، لكنهم أيضًا لم يغلقوا الباب تمامًا على التعامل معها، وفي الحالين، فإن المساعي الأميركية والأممية لتأسيس ملامح ثقة بين المملكة والحوثيين، هي التي ستتحكم في اتجاهات باقي المراحل التالية؛ لأن من منطق الحروب الأهلية التي يطول مداها، أن تتشكل خطوط بعيدة عن المسارات التي بدأت بها، وتتغير مصالح اللاعبين وتتضخم مصالح آخرين، ونتيجة ذلك أن يتعقد الاقتراب من وضع حلول دائمة لها.

لا شك أن ارتباط جماعة الحوثيين، وأقصد قياداتهم التي أسستها، بالنظام الإيراني، ليست وليدة الحرب التي بدأت في مارس (آذار)، 2015، ولكنها سبقت ذلك التاريخ حين كان عدد من أنصار الجماعة يذهبون إلى إيران عبر سوريا أو بيروت، وحصل البعض منهم على دورات في الفقه الشيعي والإعلام والتدريب على القتال واستخدام السلاح، وعلى الرغم من أن الحكومة اليمنية حينها، حاولت متابعة هذه التحركات بإرسال فريق من الاستخبارات للعمل ضمن البعثة الدبلوماسية في طهران، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لمعرفة وفهم تفاصيل النشاط الذي كان يتطور بين إيران والحوثيين.

أسهم امتداد هذه الحرب لفترة طويلة في تعزيز العلاقات بين السلطة في صنعاء والحكومة الإيرانية؛ إذ كانت الأولى محتاجة ومضطرة إلى سند خارجي يمكنها التعويل عليه، وقد ظهر الأمر أكثر وضوحًا بعد مقتل الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، كما أن إيران وجدت في الجماعة كيانًا يمنحها موقع جوار مباشر مع المملكة العربية السعودية، ثم تجلى عمق العلاقة العلنية بقبول ممثل لصنعاء في طهران، وتسهيل عمله من داخل مبنى السفارة المملوكة للجمهورية اليمنية، وأخيرًا عمدت إلى تدبير وصول ممثل لها إلى صنعاء بصفة سفير، والواقع أن الموقفين نادرا الحصول في الأعراف الدبلوماسية والعلاقات الدولية، لكنهما يعلنان عن الارتباط العضوي بينهما، وهذا يتيح للشكوك أن تبقى حاضرة في أي تسوية مقبلة ستحتاج معها السلطة في صنعاء إلى جهد سياسي لتقليص النفوذ الإيراني المثير للقلق في المنطقة برمتها، وإبقاء العلاقات الخارجية في منأى عن المحاور غير العربية التي لا تساعد في استعادة الاستقرار.

بالعودة إلى المبادرة، فهي تشكل ملامح الاتفاق الذي يتمنى اليمنيون جميعًا أن يضع حدًا لهذه الحرب التي تسببت في تعميق الجراحات والأحقاد والدمار والدماء، ولا يجب تصور أن القبول ببنودها سيجلب السلام؛ لأن التفاصيل التي تلزم للتنفيذ هي بلا شك في حاجة أولًا إلى تثبيت مراحلها الزمنية بصورة واقعية ومرضية، ولن يكون ذلك سهلًا بعد هذه السنوات الست، وثانيًا إلى اقتناع الأطراف كلها بأن السلاح لن يحقق انتصارًا مهمًا تصور أحدها أنه قادر على انتزاعه، وثالثًا أن التنازلات التاريخية صارت هدفًا ووسيلة في آن واحد، فمن دونها لن تتزحزح المواقف، وستبقى قضية السلام بعيدة المنال، على الرغم من اقتناع الجميع بأنها الهدف الوطني الوحيد الذي يجمع عليه اليمنيون والمنطقة والعالم.

يقع على الحوثيين الجزء الأكبر والأهم من المسؤولية الأخلاقية والوطنية في القبول بمبادئ المبادرة السعودية، وليس في ذلك ما ينتقص من قوتهم على الأرض وسيطرتهم على أجزاء مهمة من الجغرافيا اليمنية، وعلى الرغم من تشكيك الغالبية العظمى من اليمنيين في رغبة الجماعة لإنهاء الحرب، وأنهم يرون فيها وقود استمرار تماسك هيكلهم التنظيمي والعقدي، إلا أن كل الرسائل التي يرسلها لهم اليمنيون والإقليم والمجتمع الدولي تؤكد وتضمن لهم المشاركة في الحكومات المقبلة، ولست على يقين أنهم قد أدركوا بعد السنوات الست الماضية، وقبلها الحروب الست (2004 – 2010) أن السلاح وحده لا يكفي لضمان البقاء ولحل المشكلات الحقيقية، وأنه على الرغم مما حققوه من بسط لنفوذهم وسيطرتهم على مناطق كبيرة، لن يمنحهم الضمانات الكافية للاستمرار في فرض أهوائهم ورغباتهم على الأغلبية العظمى من المواطنين.

الاختبار الحقيقي الذي سيواجه المبادرة السعودية هو رد فعل الحوثيين عليها وحجم التنازلات التي سيقدمونها، والأهم مدى استعدادهم لعدم ربطها بأي تسويات إقليمية أو أن يجعلوها "رد جميل" لإيران لتقايض بها في ملف علاقاتها الخارجية، في الوقت الذي تتزايد فيه ضغوط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإنهاء الحرب، وكذلك إعادة العمل بالاتفاق النووي. ومن الواضح والمنطقي سياسيًا أن الحكومة الإيرانية ستعمد إلى إظهار قدرتها في التأثير على الجماعة والدفع بها في الاتجاه الذي يناسب تحقيق مصالحها هي أولًا ثم اليمن، وهذا موقف سيكون فارقًا في المرحلة المقبلة.

أكرر هنا أن المبادرة تحمل رسائل إيجابية كثيرة ويجب النظر إليها كاختراق حقيقي وجاد للمرة الأولى منذ فترة طويلة، ويمكن لها السير بالمفاوضات السياسية خطوة كبرى إلى الأمام، ولكن هذا يستوجب عددًا من الإجراءات الإنسانية الفورية على الأطراف المنخرطة في الحرب، وعلى رأسها وقف كل العمليات والتحركات العسكرية، وكذلك فتح المطار كما كان معمولًا به في الفترة التي تلت الحرب حتى إغلاقه، وأخيرًا رفع القيود عن المواني كافة مع الإبقاء على الرقابة الصارمة لمنع دخول أي سلاح إلى اليمن.

اليمنيون اليوم أمامهم فرصة عظيمة يمكن أن تعيد لهم أملًا في سلام يتوقون إليه، وهدوءً يبحثون عنه منذ سنوات، وعلى حملة السلاح أن يثبتوا إخلاصهم للبلد، وأن يثبتوا للمواطنين أن الحرب ليست رغبتهم، كما يمكنهم البدء في اتخاذ خطوات عملية لا تحتاج منهم إلى تدخلات خارجية مثل الوقف الكامل للعمليات العسكرية وفتح المعابر الداخلية من دون استثناء، سواء كانت في الضالع أو تعز أو مأرب أو الحديدة، ويجب ألا تكون هذه الإجراءات مؤقتة من أجل ابتزاز مكاسب سياسية أو جغرافية لأي طرف، وإنما هي خطوات يجب وضع خطة رقابة عليها، وستدل على منسوب المسؤولية الأخلاقية والوطنية التي بقيت عند المتحاربين، ومدى حرصهم على كبح جماح الهرولة في تمزيق الوطن على الخطوط المناطقية والمذهبية كافة.

المبادرة يمكن لها أن تؤسس لمرحلة مختلفة في اليمن والمنطقة، ولن يتحقق ذلك من دون نوايا وطنية صادقة صار اليمني البسيط يشكك في مقاصدها عند المتحاربين الداخليين.

"اندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى