مأساة أخوين جامعيين لا يستطيع أحدهما السير نحو الآخر

> تقرير/ فردوس العلمي:

>
  • حكاية وجع وحلم تبخر وضاع..
كثيرًا ما تتبخر الأحلام خلف غمامة الألم، لترسم سُحبًا من وجع، وتهطل قطرات من دموع في قلوب تسكن خلف جدران أحد المنازل في منطقة شعب العيدروس، في مديرية صيرة بمحافظة عدن، تلك المدينة المثخنة بالجراح، وسوء الخدمات، وجد فيها الألم سكنًا له، وتربَّع ليتقاسم مع الوجع وقلة الحيلة ما ينهك الجسد النحيل.
لم استطع النظر إليهم، وأن أسمع حكايتهم، من أب يتحدث بوجع، وهو يحكي حكاية يعيشها مع أبنائه من سنين طويلة، حيث يسكن ثلاثتهم، شاب وشابة في عز شبابهم، من ذوي الاحتياجات الخاصة، مقعدين لا يستطيعان مغادرة أسرتهما، إلا بمساعدة الغير، وأب متقاعد لا حول له ولا قوة في العقد السابع من عمره.
يعيش الثلاثة في منزل مكون من غرفة وصالة، جدرانه متهالكة، وخشبه أكلت منها الأرضة وشبعت، حاولت أن أصوغ لكم حكاية هؤلاء، ولكن الوجع يغلبني، وتعميني دموع الأسى، تعالوا نسمع قصتهم من والدهم، ومن الشاب محمد صالح القائم بخدمتهم ..

زيارة مشبعة بالألم
زيارتي لهذه الأسرة كانت جدًا موجعة، فلم أرَ أمامي غير جسدين، جلد على عظم، متكورين فوق سريرين متقابلين، لا يستطيعان حتى الحديث مع بعضهما البعض إلا بالنظرات.
يقول الأب بألم:" هذا حالي أعيل روحين كما ترين، فهما لا يستطيعان حتى الحركة، والحديث، أو حتى التمدد على السرير"، ويواصل الحديث بصعوبة قائلا: "يؤلمني حينما ترغب ابنتي بالتمدد على السرير، ويتقطع قلبي ألمًا وحسرة وأنا أسمع صوت صراخها، وهي تتألم لمجرد أنها ترغب بالتمدد على سريرها".

وتابع الأب سرد حكايته وابنيه وقال: "يعاني أبنائي خللًا وراثيًا في النخاع الشوكي، ويحتاجان لرعاية خاصة، البنت حالتها أصعب من الولد، فكل عضلاتها متشنجة، وتشعر بالألم لمجرد أن تمسك الملعقة، أو ترغب بالجلوس، أو التمدد، كما أنها فقدت القدرة على الحديث، وحالتها تزداد سوءًا، أمَّا الابن حالته كما ترين، جلد على عظم، وفقد القدرة على الحديث بوضوح مؤخرًا، والقدرة على الحركة هو الآخر، ويحتاج إلى علاجات مكلفة، تصل شهريًا إلى 45 ألف، وأنا معاشي التقاعدي 45 ألف، فماذا أعمل ؟".

سؤال جعلني أبكي، وأشعر بعجزي، وقلة حيلتي أمام هذا الأب الصابر، والمتحمل لقدر كتب عليه. وهنا توقف الأب عن الحديث، وهو ينظر لولده ذلك الشاب الجميل، الذي تحول إلى طفلٍ لا يقوى على الحركة، وإلى ابنته الشابة التي أصبحت أسيرة سريرها، كطفلة لم تكمل عامها الأول.

شهادات جامعية قيدت بالإعاقة
كانوا سعداء بزيارتي لهم، فكما عرفت لا أحد يزورهم غير الشاب محمد صالح، الذي أوصلني إليهم، سألت والدهم، "هل ما يعانيه أبناؤك منذ الولادة أو أصيبوا بمرض؟"، وكانت المفاجأة التي أذهلتني وأوجعتني بإجابته التي كانت: "ابنتي من مواليد 1975م، خريجة كلية الهندسة، وكانت من الأوائل، أصيبت بالمرض بعد التخرج من الجامعة "، كانت الفتاة تنصت لحديث والدها باهتمام، وتحاول تصحيح بعض المعلومات بالإشارة، وهز رأسها وهي تبتسم.

وعندما رأى دهشتي قال: "لا تستغربي فابني أيضًا من مواليد 1984م، خريج كلية الاقتصاد، وهو أيضًا من أوائل الطلاب، وأصيب بالمرض في عام 2007م بعد التخرج، وكل عام تتدهور حالته، حتى أصبح جلد على عظم، يعجز عن الحديث بوضوح، فاقد القدرة على الحركة، وأصبح مقيدًا على سريره وكرسيه المتحرك ".
ما لفت نظري خلال هذه الزيارة أنه وعلى الرغم من كل هذه المعاناة، إلا أنهما محافظين على الصلاة، وقراءة القرآن، والابتسامة لا تفارقهما، ولسان حالهما يقول: "قدر الله وما شاء فعل، كُتب علينا أن ندرس ونتعلم، وتقيد شهادتنا، لتبقى حبيسة الدولاب، بسبب الإعاقة" .

سألت الأب: "من يطبخ لكم؟" ليتنهد بعمق ويقول:" الجيران جزاهم الله عنا كل خير، يقومون بالواجب، ويوفرون لنا ما يسد رمق الجوع فينا، وساعات يقوم محمد صالح بالطبخ لنا ".
ويضيف: "كما ترين قتلنا الحر فمع انقطاع الكهرباء المستمر، يتضايق ابني من البقاء في المنزل، فيرغب في الخروج ليشم الهواء، ولكن أنهار المجاري أمام المنزل، تمنعه من هذه اللحظات البسيطة ".

محروم من الإعانة
"قبل عام 2011م، قدمت أوراق ابني إلى الضمان الاجتماعي، بغية الحصول على الإعانة، فراتبي ضئيل، وليس لي مصدر دخل غيره، وللأسف رفض الطلب، على الرغم من أن ابني مستحق للإعانة، وقدمت الطلب مرة أخرى، وأيضًا تمَّ رفض الطلب"، قالها الأب مستغربًا- الرفض- ومتسائلًا عمَّن تكون له الأحقية في هذه الإعانة، إن لم تكن لمثل هكذا حالات.

التفت الأب إلى ولده ليقوم بإطعامه بعض اللقيمات، ويقول بحسرة: "اليوم أنا معهم، ويعلم الله لو مُت ماذا سيكون مصيرهم ..".
الشاب محمد صالح في نهاية العقد الثالث من العمر يقول: "هذه الأسرة حالتهم صعبة، وتصعب على الكافر، أحاول بقدر الإمكان أن أمد لهم يد العون والمساعدة لوجه الله، ولمساعدة والديهما، فكما ترين هو رجل كبير في السن، وهم اثنين، لذا أنا اتكفل بخدمة الولد، وهو يتكفل بخدمة ابنته".

يقوم محمد صالح بغسل الولد، وتبديل ملابسه، وإطعامه، وتغيير الحفاظات له، وأوقات يطبخ لهما ما يرغبان به، ويغسل لهما الملابس، ويخرج يُمَشِّي الولد بكرسيه المتحرك المتهالك.

"أحاول فهم ما يقولانه، فهما يتحدثان بصعوبة، وتحتاج إلى الصبر لتسمعهما وتفهم ما يريدان قوله" يقول الشاب محمد: "احتياجاتهما كثيرة، فهما بحاجة إلى حفاظات، وبحاجة إلى سلة غذائية شهريًا، وإلى علاجات أيضًا، فعلاج الولد مكلف، والأب لا حول له ولا قوة، محتاجين أيضًا كراسي كهربائية متحركة، والى بطاريات أو طاقة شمسية".

وأوضح محمد صالح أن حياة هذه الأسرة، " كانت مستقرة، فأحد أصدقاء الشاب كان يرسل له مبلغ 100 ألف ريال بصورة شهرية، لكن للأسف طمع أحدهم بهذا المبلغ، ودخل المنزل على أساس يريد أن يساعدهم، فسرق المبلغ الذي كان لديهم، وذهب البنت كذلك، بل لم يكتفِ بذلك، وبلغ به الأمر أن يقول أنها أسرة لا تحتاج للمساعدة، ما أدَّى بصديق الشاب إلى قطع المبلغ الشهري، الذي كان يرسله حينما بلغه الخبر الكاذب".

قبل أن أغادر هذه الأسرة، طلبت أن التقط صورة لهما، فرأيتهما لا يحبذان ذلك، وقال لهما محمد صالح، "لازم صورة"، فطلب الولد أن يقترب منه، فقال له بصوت متقطع وبالإشارات، "أرجو أن لا تذكر الاسم، وترمز لنا بالحروف، وألا تبين وجوهنا في الصورة "، كان هذا طلبهما، فعلى الرغم مما يعانونه، إلا أنهما يمتلكان قوة إرادة تحفظ لهما كرامتهما .

هنا انتهت زيارتي .. وبهذه النهاية أكتب صرخة إلى أهل الخير، بأن يغيثوا هذه الأسرة، ويرحموا الأب الطاعن في العمر، الذي لا يقوى على تقديم المزيد من المساعدة لشابين مقيدين على الأسِرَة، بل هو بحاجة لمساعدة، نظرا لكبر سنه، وعدم قدرته على رؤية فلذة كبدة يقاسيان العذاب، فيما هو لا حول له ولا قوة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى