مشانق الإفقار في اليمن

>
​تتجذّر حالة الفقر في اليمن، وتتسع نطاقاتها، لتشمل معظم طبقات المجتمع اليمني، محصلة لسياسات سلطات الحرب التي ما زالت تعطّل وسائل تعافي الاقتصاد الوطني، عبر إيجاد قنوات اقتصادية هجينة، ضمن اقتصاد الحرب، تمكّنها من نهب موارد الدولة وتنمية مكاسبها، مقابل استمرارها في سياسة تجويع اليمنيين واستنزافهم، فضلاً عن مضاعفة ضرائبها على مؤسسات القطاع الخاص، بحيث تضاعفت حلقات إفقار اليمنيين في دورة مغلقة من الجوع والإذلال والحرمان.

يترابط تنامي معدلات الفقر في المناطق المحرّرة، مع فساد السلطة الشرعية بتركيبتها السياسية المتنافسة، إذ استمرت في إدارة موارد الدولة لمصلحة طغمتها السياسية والعسكرية، على حساب تأمين دفع رواتب موظفي الدولة، بما في ذلك تقاعسها عن إصلاح المؤسسات الخدمية، وتحديداً القطاع الصحي وقطاع الكهرباء اللذين يعانيان من شلل تام، الأمر الذي أضرّ بحياة المواطنين، واستمرار هدر السلطة الشرعية، بشكل متعمّد، لفرص تحسين الأوضاع الإنسانية في المناطق الخاضعة لها، مقابل تكريسها واقع الفقر بكل الوسائل، بما في ذلك تعطيل القطاعات الخدمية. ومع أنها لا تملك قرارها السيادي في إدارة معركة الخدمات في المناطق المحرّرة، الذي يسيطر عليه حليفها السعودي، فإن السلطة الشرعية كانت تستطيع الضغط على حليفها لإصلاح الوضع الإنساني، وكذلك إدارة الدعم المالي الذي تتلقاه في تنفيذ مشاريع يستفيد منها المواطنون، فضلاً عن صيانة القطاعات الخدمية المتضرّرة جرّاء الحرب، وسداد رواتب الموظفين، إلا أنها تقاعست عن أبسط مهامها حيال المواطنين، فيما دفعت سياستها الاقتصادية اللامسؤولة نحو إفقارهم.

ضاعف الفساد العميق لسلطة لا مسؤولة من حدّة الفقر في المناطق المحرّرة، وإن استوعبت خصومها في السلطة، إذ إن حكومة اتفاق الرياض التي تشكلت بهدف مكافحة فساد السلطة الشرعية الذي أضرّ بإدارة مؤسسات الدولة، وانعكس سلباً على حياة المواطنين، بما في ذلك وعود المجلس الانتقالي الجنوبي في تحسين الوضع الإنساني، ما لبث أداؤها أن صار استمراراً لمنظومة الفساد، حيث أوجدت أزمات اقتصادية جديدة، مضافة إلى الأزمات البنيوية الناتجة من انهيار الاقتصاد اليمني جرّاء الحرب، حيث رفعت حكومة اتفاق الرياض سعر المشتقات النفطية والغاز المنزلي، الأمر الذي ضاعف معاناة المواطنين، مقابل عدم إيفائها بمسؤوليتها حيال سداد رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين في المناطق المحرّرة، فيما عجزت عن ضبط السوق المحلية، بحيث تجاهلت تلاعب التجار الموالين لها بأسعار المواد الغذائية. ومن جهة أخرى، فشلت السلطة الشرعية، بعد سبع سنوات من الحرب، وتعاقب حكومات عديدة، في تأمين قطاع الكهرباء في المناطق المحرّرة، حيث تعاني جميع المدن الخاضعة لسلطتها من استمرار انقطاع الكهرباء، فيما أدارت الحكومة هذه الأزمة كعادتها بقبول شروط ممولها، من خلال إجراءات إسعافية مؤقتة، لا تهدف إلى إيجاد حل جذري لأزمة قطاع الكهرباء، بل تحقّق لها أرباحاً طائلة، جديدها إدارتها المنحة السعودية، لتشغيل محطة كهرباء عدن، بحيث ضمنت نفقة إشراف اللجنة الحكومية على المنحة السعودية، فضلاً عن اعتمادها على وسطاء محليين من التجار الموالين لها، في إمداد محطات الكهرباء بالديزل والمازوت، كوجه من أوجه الفساد والإثراء غير المشروع على حساب استدامة معاناة المواطنين.

لا تلبث العصابات، وإن أصبحت سلطة حاكمة، أن تكشف عن سلوكها القائم على النهب، بحيث تحوّل المواطنين إلى ضحايا دائمين. وفي هذا السياق، تتغوّل سلطة جماعة الحوثي باختراع آليات نهب متجدّدة، بحيث أدارت حياة المواطنين وفق آلية امتصاص الموارد، التي تتجاوز نهب موارد الدولة المجهود الحربي، وفرض الإتاوات اليومية، والتبرّعات لدعم الجبهات، إلى اقتسام مصادر دخل المواطنين واستنزافهم مالياً، ففي مقابل حرمانها أكثر من مليون موظف يمني رواتبهم للسنة الخامسة، الأمر الذي دفع الطبقة الوسطى من الموظفين والأكاديميين إلى حافّة الفقر، أوجدت سلطة الجماعة طرقاً احتيالية لنهب أموال المواطنين، حيث حولت الزكاة من فريضة تُؤخذ من الأموال نسبة محدّدة وفق ضوابط شرعية، إلى ضريبة باهظة، تُنتزع من أموال مؤسّسات القطاع الخاص، وتخضع لشروط الهيئة العامة للزكاة، في تعدٍّ سافر على القوانين والدستور اليمني، حيث اُجبرت الغرفة التجارية والصناعية في صنعاء قبل أيام على قبول شروط الهيئة العامة للزكاة بفرض زكاةٍ تتجاوز 25% على مؤسسات القطاع الخاص، وذلك بعد مداهمة معظم المحلات والمصانع وإغلاقها، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تهجير ما بقي من الرأسمال الوطني في المناطق الخاضعة للجماعة، وذلك نتيجة سياسة الجماعة في نهب مؤسسات القطاع الخاص التي لا تقتصر على الزكاة، بل رفع رسوم ضرائب الواجبات والضرائب الأخرى، والإتاوات اليومية. وفرضت جماعة الحوثي أيضاً، قبل شهر، ضرائب جديدة على الصادارت السلعية التي تدخل إلى المناطق الخاضعة لها، وصلت إلى 50%، على الرغم من أن البضائع جرت جمركتها في عدن، الأمر الذي ضاعف ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وأجبرت الجماعة ملاك المنازل في المناطق الخاضعة لها على تجديد أوراق الملكية، أياً كان زمنها، مقابل دفع أموال طائلة للأمناء الشرعيين التابعين للجماعة، فضلاً عن إدارة المجتمع بالأزمات التي ضاعفت الأزمة الإنسانية، ودفعت المواطنين إلى حافة الفقر.

إحدى أكثر الوسائل إجراماً في نهب المواطنين ومضاعفة معاناتهم، إدارة جماعة الحوثي ملف المشتقات النفطية والغاز المنزلي، حيث اعتمدت الجماعة طوال سنوات الحرب على سياسة تجفيف محطّات المشتقات النفطية في المناطق الخاضعة لها، لتنمية السوق السوداء التي تديرها، ملقيةً كالعادة المسؤولية على سلطة التحالف العربي، لمنع دخول سفن المشتقات إلى ميناء الحديدة، مقابل استمرار جماعة الحوثي في ضخّ المشتقات النفطية للسوق السوداء، سواء التي كانت مخزّنة في المحطّات الرسمية للدولة أو المحطات التجاربة، أو التي تتحصّل عليها من تجار موالين لها، يحتكرون توريد المشتقات إلى السوق السوداء التي تخضع لقوانين سماسرة وتجار البترول الموالين للجماعة، من خلال المضاربة بأسعار المشتقات النفطية والغاز المنزلي، ووقف محطات الدولة، وإجبار المواطنين على الشراء من السوق السوداء خياراً وحيداً أمامهم مع تكبّدهم أسعاراً خيالية، بحيث راكمت سلطة الجماعة، على مدى سنوات الحرب، أموالاً طائلة من خلال إدارتها المشتقات النفطية والغاز المنزلي، نتيجة الفرق في السعر بين التسعيرتين، الرسمية والسوق السوداء، إلا أن عقل العصابة المدرّب على النهب وامتصاص أموال المواطنين رفع، قبل أيام، تسعيرة البترول في المحطات إلى 11 ألف ريال، وهي تقارب سعره في السوق السوداء، ورفعت أيضاً تسعيرة الغاز المنزلي إلى سبعة آلاف ريال، وإن لم تصدر الجماعة قراراً رسمياً بذلك. وفيما تسوّق الجماعة أن الهدف من رفع سعر المشتقات النفطية هو التخلص من ظاهرة السوق السوداء، فإن الحقيقة التي يدركها المواطنون في المناطق الخاضعة لها أن الهدف من هذه الخطوة التي جرت التهيئة لها أكثر من عام، هو الاستمرار في نهب المواطنين، وشرعنته بطرق لا قانونية ولا أخلاقية.

الفقر المفروض على اليمنيين، الذي يتضاعف يوماً بعد آخر، هو قانون العصابات الحاكمة التي ترى في بؤس اليمنيين وفاقتهم ضرورةً لبقائها في السلطة، ومن ثم لاستدامة الحرب، بحيث لم تكن حالة تنامي الفقر في اليمن نتيجةً مترتبةً عن تداعيات الحرب، وإن أسهمت في تخليقها، إلا أن هذا الفقر الذي يقتل اليمنيين، وأودى أخيراً بحياة عشرات من الأكاديميين في جامعة صنعاء، جرّاء عجزهم عن شراء العلاج، ليس قدراً إلهياً، بحيث يخضع له المواطنون باعتباره من سنن الحياة، بل جريمة لا إنسانية، لا تقل بشاعة عن الجرائم التي ترتكبها أطراف الصراع بحق اليمنيين. ومن ثم على العالم تجريم هذه الأطراف، ووقف مشانق الإفقار التي تحصد ملايين من الضحايا الأبرياء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى