ومنهم من ينتظر

> لا يوجد وعاء بيولوجي كوني يجرؤ على استيعاب الألم سوى قلب يحيى.
ثلاثة أبناء واحد بعد الآخر على امتداد جبهة واحدة دفاعاً عن قضية واحدة رحلوا تباعاً قبل أن تدرك الأشجار انقضاء الصيف، وتركوا الأرض وحيدة، "وعشرين متر من السماء" سيحتاجها الأب يحيى لتسرح عيناه فيها، ويرى أعمارهم الفائتة.

كانوا صغاراً يتسابقون بين "رموش الأرض"، وتنمو ضحكاتهم سنابل على أفئدة الزارعين، "يستردون السماء" بعد كل غيمة، وقبل أن يشرب السهل من سيل المنحدرات. يفتشون عن مخابئ العصافير حتى ترتوي الأرض وتتحرر النسائم البرية، ثم يخرجون إلى ربوة عالية ليقتفوا أثر الملائكة.
هكذا كانت بداياتهم، وهكذا عرفتهم الأرض والأشجار والفصول. لم يفرحوا إلا قليلاً في زمن الطفولة، ولم يمكثوا كثيراً في أعمارهم، حتى رأوا شريط الحياة تطويه لحظاتهم الأخيرة، ثم غادروا وتركوا للمدى رياح الأسئلة.

لماذا علينا أن نموت يا أبي؟، وهل سيتذكرنا الآخرون حين ينتصرون؟ وإذا لم ينتصروا ماذا سيقولون عنا؟ هل ستتحد أسماؤنا مع شموس الصباح، أم تبقى حبيسة دمعة في ليل المنسيين؟

عيناك غائمتان أبتي، والبرق الأزرق لا يلوح الآن، فانتظر حتى تلمع السماء ويسح المطر كي تستريح قليلاً. أنت متعب جداً ولم تدرك تماماً بعدً أننا ذهبنا في صمتنا الجميل، فما زال قلبك مزدحماً بأصوات المعركة التي اقتربت ذات نهار إلى جوارك، ثم دفعناها بعيداً عنك، وكنت تعلم أننا نذهب إلى مكان لا رجوع منه، لكن وعد علينا أن نعود طيوراً صغيرة تحلق كل صباح حول شبّاك يطل منه وجه مليء بأخاديد الزمن الحزين، ولم يبق من معالمه سوى ذوائب باهتة.

لقد أخذوا حصتهم من دمك يا أبي في معاركهم القديمة ولم يكتفوا، فأتوا ثانية يستكملونها من دمنا، لكأننا نحارب بلا نهاية، فكلما شدهم شيء في التاريخ يعودون إليه، ونتخيلهم يأخذون محبرة وورقاً سمرقندياً، ويجلسون أمام سراج كهف ليدونوا أملاكهم من البشر والحجر، ثم يأتون ليقتلونا.

يصنفوننا كما يشاؤون ويضعوننا، حيث تأخذهم أهواؤهم، وكلما أتى حاكم جديد "بأمر الله" أعاد ترتيبنا ومسوغات تبعيتنا له كيف ما يشاء، وكأننا من المجتمعات البدائية التي تحتاج إلى اكتشاف وإلى مسميات تضعها ضمن المصنفات الأنثروبولوجية وفقاً للتبعية الجغرافية، فنحن في عقيدتهم جغرافيون بلا هويات خاصة، وبلا ثقافات خاصة، وبلا "حكي" شعبي خاص. نعيش هكذا جزءاً من "واحدية" مغلقة، أو نموت على طريقتهم.

يسموننا إخوتهم وأبناء وطنهم، ثم يحرقون أرضنا ويدمرون ديارنا ويأخذون أجمل الشهداء برصاصهم. هكذا يعتقدون أنهم يتوحدون معنا، وحين لا تكفيهم تلك الدماء يأتون مرة أخرى ليتوحدوا معنا أكثر.

لقد أتوا هذه المرة من دغل التاريخ يحملون شهوة الانتقام الأزلي من كل شيء، وبعد أن قتلوا ودمروا وأحرقوا اتفق كل الفرقاء في محيطهم، فالجميع يحركهم ذلك الشعار الذي حولوه إلى عجل مقدس يقدمون له دمي ودمك يا أبي قرباناً، كي يعيش خالداً في جنونهم، والحقيقة أنه لا "مقدّس" لديهم سوى مصالحهم وسلطانهم، وكأنهم يعيشون على "شفا جرف هار" إذا انزاحوا عنا سيقعون فيه.

وهناك من سيكتب كثيراً، ليثبت أن دماءنا صفراء وراياتنا غبراء، وأن عقولنا لا تتسع لمفرداتهم التي يصنعونها باسم الله وباسم الدين والوطن. سيقولون عنّا نحن الشهداء بأننا أصحاب قرية، وهم القتلة وتجار الحروب أهل وطن كبير، فلا تلتفت إلى تلك "الكائنات الحبرية"، لأنهم يدركون جيداً أن الشدائد لا تلهينا عنا، ولن تكسرنا.

يا أجمل الآباء.. نعلم أنك لا تستطيع أن تقول كلاماً بلغة مجروحة ولا تنتظر إشراقة وحي تلهمك سوى دمعة نظيفة صامته تماماً كما يفعل الأقوياء في وداع أفئدة زرعوها وكبّروها، حتى أتى وقت الحصاد الرهيب، لكن عليك أن تظل محدقاً في تلك الشجيرات قرب الدار لترى أرواحنا عالقة فيها، فالأرواح تسكن الأشجار القريبة، ولن تغادرها حتى تنتصر دماء الذين دافعوا عن بقائهم، ثم تذهب إلى سبيلها، وهناك أشجار كثيرة بعدد المدافعين عن حريتهم، فمنهم من رحل ومنهم من ينتظر.

(اليوم استشهد أجمل الآباء، يحيى رحمه الله، في معركة الدفاع عن الجنوب، ليلحق بأبنائه الثلاثة).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى