ملك الخبر سنفتقدك

> علم آخر من أعلام الصحافة الخبرية بترته المنون، إنه أحد أهم الرواد الأوائل الذين صنعوا للصحافة الخبرية تحديداً شيئاً من لا شيء.
رحم الله ملك الخبر الأستاذ الوالد (محمد عبدالله مخشف)، وأحسن إلى روحه الطيبة بقدر ما أحسن إلى وطنه، في رحلة طويلة شاقة كانت في الواقع خليطاً من دراما من الشهد والدموع، ومن الانتصارات والتحديات، ومن المجد والعزة والكفاح المرير.

لقد كافح ملك الخبر وسيد الصياغة اللغوية الرصينة من أجل منح الخبر حياة أطول نابضة بالصدق والصراحة، وناضل من أجل أن تبقى الكلمة ذات الكعب اللغوي العالي في مكانتها، لم يلق سلاحه ويستريح من وعثاء الصحافة وأعبائها حتى وافاه الأجل في عدن توأمه الروحي والفكري والنضالي.
كان الأستاذ (محمد عبدالله مخشف) صاحب مبدأ، وكان عالي الهمة يقبل كل مهمة مهما بدت صعوبتها من أي جهة كان مصدرها، فيعمل على إنجازها بدقة وإخلاص شديدين، حتى أنه حمل على عاتقه منفرداً لقب رجل التحديات الأول بلا منازع.

عاش ملك الخبر مخاض الرحلة الأولى، فلم ترهبه شحة الإمكانيات الفنية، ولم تفت من عضده صعوبة الحصول على المعلومة في زمن كان فيه الحديث عن الموديم والستلايت من مستحيلات حرب النجوم، على العكس تماما كان هذا الرائد نوعاً نادراً من البشر، يتألق دائماً تحت الضغط وشحة الإمكانيات، ويتسلطن في سبر أغوار المهمات المستحيلة بصورة لا يرتقي إليها إلا من كان يمتلك قرون استشعار عن بعد تفرمل كل تلك المنغصات.

تدرج من مرحلة إلى أخرى، وتعددت محطاته من صحيفة إلى أخرى، وتعاقبت من حوله الأجيال، طمست دولاً وولدت دولاً أخرى، وتلك الأيام نداولها بين الناس، لكن الأستاذ (محمد) بقي أصل الخبر وفصله، بقي في محيطه يصنع المفاجآت، وكأنه حبوب بن تعدل المزاج، وكنز من الدرر فوق الشجر.
طاف به بساط ريح صاحبة الجلالة من أمصار إلى أقطار، ومن منصب الى آخر، خاض رحلته في محيط هادر متقلب الأمواج والأرزاء، وتعرض طوال رحلته الظافرة للكثير من المضايقات والمشاكسات شأنه شأن أي مبدع يعاني من ظلم ذوي القربى، لكنه كان متسامحاً وكريماً لا يحمل قلبه مثقال ذرة من ضغينة أو حقد.

احتفظ الأستاذ (محمد) بأخلاق الفرسان، وأعطى جناحيه لزرقة السماء، مخر عباب البحر بمجداف قدراته الذهنية الخارقة، ومن معطفه وصندوق قزاحياته فاحت نكهة أشجار البرتقال المثمرة، لا يوجد مائة صحفي خبري حول العالم مثله، في الحقيقة هناك ملك واحد للخبر ومن حسن حظنا أنه كان معنا.
الرجال الصادقون الذين التصقوا بمشاعر ومشاكل الناس لا يموتون، وملك الخبر كان قريباً من الناس حد الالتصاق، دعوات الناس من حوله تشيعه، هذا لأن هذا الرجل الطيب البشوش الذي تغنت بأخباره وكالة "رويترز" لخمسة عقود كاملة له قدرات خاصة، وحاسة حدس رفيعة تشم الخبر الانفرادي من على بعد أميال طويلة.

ورغم أن الأستاذ (محمد) عاش حياته كلها بين رائحة الورق والمحبرة وأزرار التكنولوجيا الحديثة، إلا أنه كان يؤثر دائماً الابتعاد عن الأضواء، يعمل في صمت داخل كوليس صياغة المفردة التي تحبل بملايين الأبعاد المختلفة، ولا يغادر مطبخه إلا بعد أن يتأكد أنه أحسن طباخة فنونه الخبرية، فقد كان رحمه الله من أنصار مدرسة الراحل (مصطفى أمين) صاحب مقولة إن الخبر الصحفي الحقيقي هو أن إنساناً عض كلباً وليس العكس.

هل كان الأستاذ (محمد مخشف) مدرسة خبرية قائمة بذاتها؟
بالطبع نعم ومليون نعم، لقد ظل ستين عاماً راهباً في محراب حب العمل الإعلامي، انحاز لقضية وطنه ولم يساوم عليها، نقل صورتها كما هي إلى فضاءات العالم الآخر بحنكة وذكاء وفراسة من يزن الكلمة بأوقيات الزئبق.

والأستاذ (محمد) رحمة الله تغشاه قبل أن تتوجه مسيرته الإعلامية ملكاً للأخبار، كان إنساناً بسيطاً نابهاً طيب القلب نقي السريرة حاضر البديهة، أحبه الناس في حياته، وسيظل حبهم له ثابتاً بعد وفاته، ستبقى لكلمات الرثاء في مقامك الرفيع عطرها الفواح، لن تفقد أريجها في وجودك وفي غيابك، سيبقى حجم عطائك نداء هادراً يعصف بعواطفنا ويزكم أنوفنا ويعطر حواسنا، ستبقى في كيان هذه الأمة ذلك الوجه المضيء والمشرق الذي يجدد الذكريات داخلنا بطيب خاطر، ومن يتمتع بخصال وسلوكيات حميدة لن تنقطع دعوات الناس له، ولن ينقطع ابتهالنا لله عز وجل نسأله جل جلاله أن يتغمد ملك الأخبار بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، ويلهمنا نحن محبيه وأهله وذويه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى