الجوّال العِجْل

> هذا الجهاز المستطيل الذي يسعه أحياناً حجم الجيب هو الشي الوحيد الذي يعكف عليه الناس. لم أرَ هنا في المدينة من ينظر إلى السماء إلاّ فيما ندر، حتى في ذروة الحديث عن هلال رمضان وهلال العيد، بيدَ أن "الجوّال" الذي صار عند كثير من المسلمين كعجل بني إسرائيل، هو من يتحدث عن المواقيت ويفصّل في التقاويم وعدد السنين والحساب. هو يتابع أيضاً أنشطة لجان الأهلّة ودور الإفتاء، وهو نفسه الجوّال الذي يزدحم برسائل "الواتس" من كل حدبٍ وصوب، فيغرق الناس بأخبار الدنيا الفانية، وقصة صاروخ الصين، وآخر صرعات الموضة ولقاح كورونا والدوري الأوروبي.

ذهبت أيام رمضان المعدودات وطوي الشهر كما تُطوى الأعمار، وما ندري أنلقى شهر الصيام في العام القابل، أم يحول بيننا وبينه ملك الموت، ولا ريب أن يحزن المسلم على فراق رمضان، فقد كان في حضرته بقلبٍ مفعم بالحب والرحمة وروح متوثبة باللقاء والتواصل، حتى أن مستوى الشعور بالأزمات يتناقص، وتنخفض درجة هَم المعيشة لما يحصل من اليُسر والتدبير في قضاء الحوائج، وسد فجوة الفقر من الصدقات والزكاة.

كان ضيفاً كريماً، لكن كم أودعنا فيه من أعمال الخير والبر والطاعة؟ أما الحكومة فقد تركت الناس لبرنامج "تراحموا"، وسلمتهم لكاميرا تبعث برسائل مؤثرة، فصار الفقير ينظر لحاله في مشهد حزين على شاشة التلفزيون وهو يستجيش مشاعر المحسنين، وفيه من الوجع ما الله به عليم.
وقيل أيضاً إن الحكومة لا تنوي العودة إلى مدينة عدن قبل إجازة الفطر، فقد سلّمت المواطن لصدقات رمضان وذهبت هي تلوي على بلاط الأُمراء.

تصرّمت أيام الشهر الفضيل، وكان الناس على أمل أن يصل طرفا الصراع في اليمن إلى حل ينهي الأزمة ويوقف الحرب، لكن اتضح أن مفتاح الحل ليس بيد الحوثي ولا الشرعية، فقد أُزيح الستار مؤخراً عن مفاوضات سعودية إيرانية مباشرة تجري على قدمٍ وساق لخفض درجة التوتر في المنطقة.

أما عندما نتحدث عن المواطن في هذا البلد، وأن حالة من عكفه على أغصان القات إلى عكفه على الجوّال، يبدو أن لا أزمة ولا فقر، وصدق صاحب "الدبّاب" الذي قال لي ذات مرة في خمس دقائق: وضع المواطن في البلد طيب، ليس هناك فقر. قلتُ له المواطن: مطحون بالغلاء، فقال: لكن في بيوت كثير من الناس ثلاثة أو أربعة جوالات، وأسواق القات مزدحمة. وقال: سمعتُ عن بيوت يتقاضى أفرادها أكثر من راتب، بينما كان الجميع يعيش قبل عاصفة الحزم على راتب رب البيت.

الناس لا تنظر إلى السماء يا رمضان، فقد شغلتهم متغيرات كثيرة عن النظر والتأمل، وليس لهم في أمر رؤية الهلال شيء، وسيأتي العيد وهم يشكون كالعادة من غلاء المعيشة وقصة الراتب والخدمات، بينما يعلّق البعض أن المواطن يذهب ليستريح من عكفه على القات إلى عكفه على الجوال، لينفّس على نفسه ضغط الهموم التي به، لكن في الحقيقة أن الحكومة ليست وحدها السبب في صناعة هذا الوضع، بل المواطن جلب لنفسه أيضاً قدراً كبيراً من المآسي عندما يحرص على رصيده من النت ونصيبه من المرقحة على حساب قوت العيال خاصة في زمن زحمة الجوالات التي صارت في أكثر البيوت في متناول كل الأفراد صغاراً وكباراً.

الاثنان القات والجوّال أضاعا أوقات المسلمين في هذا البلد، فقد طغينا وتعدّينا. نعوذ بالله من أن تصير العكفة على الجوال كالعكفة على عجل بني إسرائيل، وعيدكم مبارك.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى